أبها: محمد الدعفيس

ضـد الطَّائفيـة

العِراق.. جَدَل ما بَعدَ نيسان 2003
 


ضمن 64 فقرة يعرض كتاب ضد الطائفية لرشيد الخيون قضايا عاشها العراقيون، تحذر من داء الطائفية الخطير، حيث عاش العراقيون ما يسمى بالمحاصصة الطائفية منذ عام 2003.
ويركز الكتاب على أنه ليس هناك أكثر تداولاً في هذا العصر من مفردة الطَّائفية، والجدل ضدها، إذا علمنا أن واحدة من معاني الجدل هو شدَّة الخصومة، فالكلُّ يشير إلى الكل بتهمة الطَّائفي، مع أن الجميع، من القوى الدِّينية، وشخصيات من اللادينين، من الذين لا شأن لهم بدين أو بإيمان، لكنهم يظهرون أكثر طائفية من المتدينين أنفسهم. وبطبيعة الحال ليس علماء الدِّين كافة هم الذَّين يمارسون الطَّائفية، والتي تتحدد ببث الكراهية ضد الطَّائفة الأخرى، بل على العكس وقف علماء دين بقوة وتمكنوا من درء الفتنة وتحجيمها عندما اجتاحت العراق بقوة بعد سقوط النِّظام السَّابق (2003)، وقضى الكثير من العراقيين ذبحاً على الهوية.
صحيح أن مفهوم أو مصطلح الطَّائفية لا يُحصر في ما بين الأديان والمذاهب، لكن ما طرق أسماع العالم ويخشى من مخاطره هو الطَّائفية الدِّينية والمذهبية، ونجدها تتصاعد مع تصاعد حضور الإسلام السِّياسي، الذي لم يتمكن من احتواء المذهبيين في حزب أو كيان واحد، وهو في المعارضة أو في السُّلطة لا يعيش وينمو خارج رحم الطَّائفة.

الأحزاب الدينية طائفية
تبدو مقالة «إسلام بلا مذاهب» مطلباً مثالي التحقيق، إذا علمنا أن جذور المذاهب تضرب في أعماق تاريخ الإسلام، ومَنْ قرأ الكتاب الصادر بهذا العنوان سيجده كتاباً في مذاهب الإسلام لا في إسلام بلا مذاهب. كما لا نحسب أن المجهود المبذول من أجل التقارب بين المذاهب سيهدم السَّواتر الكبرى بين الأُصول، وأبرزها أصل الإمامة. ناهيك عن سواتر الفروع. إن ما يحتاجه الأتباع، وسط الغليان الطَّائفي، هو فن التعايش وإدارة الاختلاف داخل الإسلام الرحب، فربما قادت الدعوة إلى إسلام بلا مذاهب، أو التقارب المفروض من النخب، إلى أزمات غير محسوبة.  إن أصل الإمامة أصل سياسي بامتياز، دخلته مقالات وصاحبته مشاعر شتى: أئمة مذاهب حملوا السلاح لقرون، وما إن وصلوا إلى السُّلطة حتى ظهر مَنْ يثور عليهم بالمنطق نفسه. وأئمة مذاهب أخرى شغلهم الحفاظ على الإسلام كفكر وعقيدة، وبفضلهم مازال قوياً في النفوس، والخلاف داخله رحمة. هناك لقاء بين التصور الحزبي، الشيعي والسُّنّي في مسألة الدَّولة الدِّينية. فحجة الطَّرفين أن دولة المدينة، في العهد النَّبوي، كانت دولة دينية، والرأي أنها ليست كذلك، فهي عبارة عن إدارة محدودة، بسيطة التكوين، يمكن تشبيهها بإدارة مضارب عشيرة من العشائر، لكننا نتفق معهم، على أنها دينية، وكانت عادلة، إلا أن السؤال، مَنْ له الحق في إدارة دولة شبيهة بالدَّولة النَّبوية ورئيسها كان معصوماً!؟ ويزيد الشِّيعة في المعصومية لاثني عشر إماماً، وأن الدَّولة المرتقبة، دولة المهدي المنتظر، سيترأسها معصوم، وهما الدَّولتان الدِّينيتان! هناك خطورة تهدد الساحة العراقية اليوم، من تحزب وتسييس شديد للدين. ومعلوم ليس هناك أصالة بين العراقيين في الميل للتعبير عن تدينهم بأحزاب سياسية، فما وجد من جمعيات في العقدين الأولين من القرن العشرين كان محدوداً، ومناطاً بالتحرر من السيطرة الأجنبية، والدِّفاع عن الدَّولة العثمانية، دولة الخلافة، أما ما تأسس في النصف الثاني من القرن العشرين فظل محدوداً، بل شبه معزول، حتى قيام الثَّورة الإيرانية، ونزول الكوارث على البلاد، والاندفاع بفعلها نحو التدين.  ليس بمقدور الأحزاب الدِّينية تبني إسلام خال من التمترس الطَّائفي. لقد أشار علماء كبار إلى ضرر التلازم بين الاستبداد الدِّيني والاستبداد السِّياسي، وهو لا يبرأ من التحزب الدِّيني، الذي يضخم مرجعياته إلى حد القداسة، ويدفعها إلى التحكم في مزاج العامة، والخطورة الأكثر أنها مرجعيات متضاربة الآراء.
 

أجّزأتم العراق؟
ليس تجاوزا إذا قيل إنه من عهد (أوروك) جلجامش، حيث نحت اسم العراق، وحتى قرار مجلس الشيوخ الأميركاني (26 سبتمبر 2007) القاضي بتجزئة العراق، إن لهذه البلاد نهايات قد يزيد عليها سلطان وقد ينقص منها محتل، لكنها ظلت هي نفسها، مع اختلاف المسميات.
الغاية، أن العراق كيان واسم مشهودان مذ ذاك الزمان. ومَنْ أراد تقطيع أوصاله عليه التنكر لاسمه أولاً. بدأت الحجة عندما أذاعوا أن الإنجليز سموه عراقاً. وهم الذين أشاعوا أن مصطلح العراق لم يكن معروفاً قبل (1921)، السَّنة التي حل فيها فيصل الأول (ت 1933) ملكاً. ولا ندري هل أتى بالاسم في حقيبته، أم استعاره من على لسان مندوبهم السامي!
كان عذر الأميركان بمشروع تقسيم العراق حلاً لمعضلة العنف، وقد خلقوها ويخلقون حلها في الآن نفسه. فمن أيام معارضة النِّظام السَّابق وهم يلحون: سُنَّة، شيعة، كُرد، ويغفلون عمداً كائناً اسمه العراق. طرحوا حقوق الكُرد والشِّيعة، لا غيرة عليهما، فالجميع حقوقهم محفوظة بعد سقوط ظالم الجميع، لكنها الرغبة في التَّجزئة لمارد منافس بثرواته وعقوله وحضارته، إن فسح له المجال ونهض نهضة خالية من قمع الداخل، وتهديد الخارج.
لا يلام الأميركان على جزر العراق إلى دويلات طائفية قد تغزو بعضها بعضاً عاجلاً. بل يلام أهله أكثر من غيرهم، وعلى وجه الخصوص، الذين يرفضون تقسيم البلاد في خطابهم، لكنهم بالدعم المستور والمكشوف للعنف تحت مسميات الجهاد والمقاومة يصنعون التقسيم بأيديهم.
 

بغداد بيـن غزوتيـن
سقطت دولة صدام حسين غير مأسوف عليها، وهي دولة البعث الثانية، التي جاءت لتبقى. وأحسب أن  كلمة صدام لقاضي القضاة رؤوف رشيد عبدالرحمن: لولا أميركا لا أنت ولا أبوك تستطيعان إحضاري إلى المحكمة كانت صادقة. فالنية والواقع جئنا لنبقى. نقلت هذه العبارة عن رئيس وزراء دولة البعث الأولى ورئيس جمهورية الثانية، أحمد حسن البكر.
 وهنا لا نريد التَّقليل من محاولات العراقيين، إلا أنهم مع دولة البعث كمن ينقش على الماء، فالعدة كانت الأمر فينا ليس بخارج منا. هذه حقيقة، لكن النقاش يدور ليس على دعم أميركا لإسقاط نظام صدام، بل كان على الآلية: هل تكون غزواً، أم بالتمكين بشتى الطرق، ماعدا الغزو. وحصل ما حصل، وكما قدمنا، أنست ويلات الغزو فرحة السُّقوط، وما أعقبها من الكوارث التي تُخلفها الجيوش عادة، المحررة منها والمستعمرة. بعدها ذهب الأميركان بحماقة، أو بنية مبيتة، إلى الأمم المتحدة ليعلنوا أنهم محتلون، فأخذت الدماء تسيل بعد أسابيع من إعلان السُّقوط (9 أبريل 2003).
أجد هنا شيئاً من المماثلة بين يوميات دخول خيل المغول بغداد (الأربعاء، السابع من صفر 656 هـ)، ودخول دبابات الأميركان (الأربعاء، السَّادس من صفر 1424هـ). ومعلوم أن مجتمعا كبيرا من العراقيين يكرهون شهر صفر، وكنا في طفولتنا نُكلف، من قِبل أهلنا، بأخذ عيدان خضراء والضرب بها على البيوت في منطقة الأهوار، مع القول طرداً للشر: طلع صفر يا محمد يا علي!
 كذلك من عوائدهم كراهة يوم الأربعاء، ماعدا الأيزيديين جعلوه يوماً مقدساً، قبل دخول المغول بدهور دهيرة.
وما نقله التَّاريخ أن عقيدتهم الشؤم من هذا الشهر وهذا اليوم بدخول المغول، فأخذ الرعب بالألباب: بغداد، وأربيل والموصل، ودفع الفزع وجهاء المدن الأُخر لإقناع جحافل المغول ألا تجتاح مدنهم، فكان لهم ذلك: الحلة والكوفة وتوابعهما مثالاً.
تبدلت المشاعر بعد 728 سنةً من ذلك الحدث، وتجاوزت نحس صفر والأربعاء، يوم دخول الأميركان، وأبهج المشهد أغلبية أهل العراق، ونسي الغالب منهم نحاسة ذلك اليوم. لكن تدريجياً عادوا، وبفعل حماقات الغازي، وعدم تدرب المتصدرين على السُّلطة، وفي التعالي على ممارسة السُّلطة، وعلى الإكثار من الثروة، عاد الشؤم من جديد، رغم أن جبروت صدام حسين أمام المحكمة لا أنت ولا أبوك أحبط شيئاً من ذلك الشؤم، فالشؤم في تأبيد القسوة والقهر، مثلما كان يخطط الرَّئيس الأسبق ثم المتهم والمعدوم (2006). رغم وحشية الجيش المغولي، الذي استغرق أربعين عاماً حتى يصل أسوار بغداد، يحفظ له الحصافة والصدق في تصفية أثر الخراب، وإعادة الأمن والأمان بسرعة مذهلة، لم يمارسها الأميركان رغم فارق الزَّمن وتبدل الوسائل وتقدم الأفكار والحيل.

توقيع صحيفة مكة
كانت صحيفة مكة، التي وقعها فقهاء عراقيون، من السُّنَّة والشِّيعة، (20 أكتوبر 2006) عند جدار الكعبة واحدة من محاولات حقن الدَّم العراقي. تضمنت عشر وصايا: المسلم مَنْ شهد الشَّهادتين - لا تأويل فيهما. دماء المسلمين حرام. حرمة دور العبادة. القتل على الهوية فساد في الأرض. تجنب الحساسيات الطَّائفية. مع المظلوم وضد الظالم. التعاون على البِرِّ. تذكير الحكومة - لا قتالها- بواجبها في بسط الأمن وتحقيق العدل. تأييد المصالحة الوطنية. المحافظة على استقلال العراق. وبطبيعة الحال، لا تمتلك منظمة مسالمة مثل منظمة المؤتمر الإسلامي أكثر من التذكير الأخلاقي، والدعم المعنوي. وأهم ما في الصحيفة أنها وقعت عند جدار الكعبة، وهي أقدس بقعة باتفاق المسلمين، وما تبقى يُترك للضمائر.
«وبينت أنه لا يجوز لأحد من المذهبين أن يكفر الآخر، ولا يجوز شرعا إدانة مذهب بسبب جرائم بعض أتباعه، ودعت إلى عدم الاعتداء على المساجد والحسينيات وأماكن عبادة غير المسلمين، أو مصادرتها، واتخاذها ملاذا للأعمال المخالفة للشرع. وشددت على أن الجرائم المرتكبة على الهوية المذهبية، هي من الفساد في الأرض الذي نهى الله عنه وحرمه، ودعت الحكومة العراقية للقيام بواجبها في بسط الأمن وحماية الشعب العراقي بجميع فئاته وطوائفه وإقامة العدل بين أبنائه».
حسناً فعل القائمون على مؤتمر مكة، لأنهم أبعدوا التباحث في المقالات الخلافية، فلو أثيرت لاحتاجت إلى سيف نادر شاه (1747 ميلادية) لمجرد طرحها، مثلما طرحت في مؤتمر النَّجف (1743) للتَّوافق بين المذهبين.
 

عاشوراء بلا سياسة

الاحتفال في العاشر من عاشوراء ليس ابتكاراً لسلطة ما، بقدر ما بدا تأسيسه شأناً شعبياً محصوراً بين محبي الحسين، والمستائين من قتله، وسبي أسرته، بكربلاء في العاشر من محرم 61هـ، وعدم نصرة أهل الكوفة له، فمن النَّاس مَنْ تقدم للأخذ بثأره، وهؤلاء عُرفوا بالتوابين، والبقية تحولت إلى التأسي والنواح، إلا أنه كثيراً ما استغل وحُرف عن تلقائيته. وهنا لا بد من النظر في تأدية مراسمه، وعلى الخصوص أنه مكرس لاستذكار الحسين بن علي بن أبي طالب! وهي مناسبة أشاعها البويهيون رسمياً سَّنة (352هـ)، ثم أُضيف إليها ما أُضيف! وللعديد من فقهاء المذهب آراء لتهذيبها، أتينا وسنأتي عليها في مناسبات عدة.
أرى أن تُخرج هذه المناسبة من السياسة، فكما رأينا، كثرة المعتقدات فيها. لكن، ارتباطها بشخصية لا خلاف على مكانتها، لا بد أن يُسعى إلى تشذيبها، وألا تُعطل البلاد، من دون إعلان، عشرة أيام!.
 

يا أئمة المذاهب الفتنة يقظة!
يبدو أن اختراع شبكة الإنترنت، ومرسلات الأقمار الصناعية، وكل ما جادت به عبقرية العقل البشري من هوائل المبتكرات؛ مضارها أكثر من منافعها، بكثير، على الشُّعوب الإسلامية، بشرقنا ومنطقتنا بالذات، حيث تحولت تلك المبتكرات إلى ساحات معارك كلامية طاحنة، كأنها تهيئ إلى سلِّ السيوف بين شيعة وسُنَّة.
وها هي الدماء سالت، وتسيل، في أكثر من بلاد، وضحايا التعصب، والاندفاع العاطفي بازديادٍ. وتبدو لبة الخلاف في مسألة، مات شخوصها الراشدون الأربعة ولم يتجالدوا بالسيوف، محصورة في مسألة «الإمامة»، ومنهما تتفرع الفروع.
وهنا لستُ في مقام تخطئة أو تصويب، ما اختلف حوله أهل المذاهب، بقدر ما هي محاولة لتجديد لفت النظر إلى تفاقم الخلاف، وتحوله من رحمة إلى نقمة، وباستخدام أروع مبتكرات ما وصل إليه العقل البشري! فكان يسمع خطبة الجمعة أو المجلس الحسيني مائة أو مائتان، في أكثر تقدير، أما الآن فيذاعان إلى آفاق الأرض جمعاء، إلى قاعدِ في داره وإلى ساعٍ  بعمله!.
 

الميليشيات وحاضنات الإرهاب

تبدو المخاوف هي المحركة الأساسية لشؤون الدَّولة والجماعات بالعراق، مخاوف متأصلة في النفوس والأمكنة. خصماء البعث يخشون من عودته، والبعثيون يحترسون من تصفيتهم، فهم لا حاضنة لهم غير السُّلطة، مثلما اعتادوا على ذلك لخمسة وثلاثين سنةً. وتحاول الأحزاب الشيعية تجنب ما حدث في مطلع العشرينيات، من القرن الماضي، ومن تهميش اختارته المرجعيات آنذاك، يوم حرمت المساهمة في سياسة بناء الدَّولة وبالتالي المساهمة في السُّلطة. وبسبب جملة تلك المخاوف أخذ كل يلوذ بقواه المسلحة: ميليشيات تمارس الضغط على الناس، والطرف الآخر يسمح بحواضن للعنف. أما الكُرد فما يزالون يعيشون هاجس إرهاب الدَّولة القومية، ويتوجسون من اتحاد عسكري ببقية العراق.
نعم، إن البيشمركه الكُردية من جنس الميليشيات! لكنها ما تزال بعيدة عن المواجهة في مناطق العنف الحرجة. فالمواجهة صيغت، كما أراد لها الصائغ بين شيعة وسُنَّة. للشيعة الميليشيات وللسُّنَّة الحواضن، والفصائل المسلحة تحت عنوان «المقاومة». يضاف إلى ذلك أن أمن المنطقة الشمالية يتطلب حراسة متمرسة في حروب الوديان والجبال، لأن الخصم تدرب على قمم وفي كهوف توربورا أفغانستان، وقد تجاوز حدود إيران وخيم بأربيل والسليمانية تحت تسميات مغرية للبسطاء من الكُرد والعرب على  شاكلة: جند الإسلام، وأنصار الإسلام.
الميليشيات الحالية أمرها أمر. تشكلت منظمة بدر بإيران، ومن هناك أخذت تقاتل النِّظام السَّابق، ورغم أنها شيعية صرفة، إلا أنها حوت ضباطاً من أهل السُّنَّة، من الفارين من الحرب أو من أسرى الحرب. ودخلت إلى العراق بعد سقوط دولة البعث بيد الأميركان. ثم ظهر ما يعرف بجيش المهدي، وأخذ الناس يعانون من تجاوزات هذا الجيش، وبرز قائد من قياداته يدعى أبا درع، اتهمه الكثيرون بارتكاب جرائم، حتى برز وكأنه النِّسخة الشِّيعية من أبي مصعب الزَّرقاوي (قُتل 2006). ولجماعة جيش المهدي محاكم شرعية خاصة بمدينة الثورة، على نمط المحكمة التي اكتشفت فضيحتها بعد الانسحاب من النَّجف.
ويدرك المتأمل للتسميتين، «بدر» و«المهدي»، خطرهما مثلما هو خطر حواضن الإرهاب، مثل جماعة «التَّوحيد والجهاد»، «أنصار الإسلام»، «جيش المجاهدين» وغيرها. فتشير بدر، كقوة سياسية وعسكرية، إلى وجود مشركين وجاهلية، بينما قال الله في كتابه: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا?(المائدة: 4). وكل الخلافات التي بعدها لا تستحق هذا التقسيم الخطير. وتشير تسمية «المهدي»، كقوة مسلحة، إلى نقض النِّظام القائم بالقوة، مثلما سيفعل الإمام المهدي عند الظهور، وليس لأحد أخذ موقعه باسم جيش أو شخصية.

تجاذب الديني والمدني
من أول وهلة يتضح لقارئ وثيقة الدستور العراقي، التي أقرت في استفتاء عام (أكتوبر 2005) أنها كُتبت على عجل، وأنها وردت مشحونة بالمتعارضات القانونية. وليس من حقي الحديث عن تلك المتعارضات أو التباينات، لكني وثقت بما قاله أهل الاختصاص. ويأتي هذا التعارض انعكاساً للخلافات التي سادت داخل لجنة كتابة الوثيقة، وأخص منها القوى الأساسية، التي بدا كل طرف منها يحاول تحقيق مكسب ما في الدستور لصالح طائفته أو قوميته أو ديانته. بمعنى يكاد العراق يُغَيَّب ككل من ذاكرة تلك الأطراف، لا من نقص بالوطنية أو خلل في الحرص على وحدة العراق، إنما مورس الهاجس الفئوي بقوة حتى طغى على الهاجس الوطني، بفعل خلفية الثَّلاثين سنة الماضية.
فحسب الدستور، الذي أقر مناطق النفوذ على أساس الطَّائفة والقومية، بدت وحدة العراق هشة، وعَمَّق انقسام المجتمع إلى طوائف. صحيح أن تنوع الخارطة الطَّائفية حقيقة قائمة منذ زمن بعيد، قد يرقى إلى تاريخ العراق الغابر، لأن هذه الأرض كانت وما تزال وسطاً عالمياً دخلتها وأقامت فيها الأقوام من كل حدب وصوب، فتعايشت وتنافرت من دون أن تكتب وثيقة يحكم بها ذلك التعايش، لذا تسلطت قومية على أخرى وطائفة على أخرى. لكن كل ذلك حصل ما قبل الشعور الوطني أو الوطن السِّياسي الذي اسمه العراق، وحسب مصادري فإن هذا العراق كيان جغرافي قديم، لم يخلقه الإنجليز ولا الملك فيصل الأول العام 1921، بل حدوده قائمة في كتب الجغرافيين الأوائل وخوارطهم.
انطلقت مباحثات ومفاتشات الدُّستور على أساس حقوق الأقوام والمذاهب، لا على أساس حقوق الأفراد، التي إن تم الانطلاق منها تضمن حقوق الجماعات كاملة، فالفرد لا بد أن يكون منتمياً وأن يكون حراً في انتمائه. لذا تتقدم فكرة تقسيم الوطن على فكرة توحيده، أو أنها وحدة بين كيانات لا بين شعب منسجم في المواطنة، فكان ما حصل وما يحصل ببلد مثل لبنان بسبب تلك السِّياسة. بمعنى أن الدستور اعترف بالخلاف الطَّائفي كخلاف طبيعي، وما حدث من مكاره بين الطوائف سببها الاختلاف.
لكن الحقيقة الصَّارخة أن شدة تلك الخلافات، أو الاختلافات، قد تصاعدت بفعل سياسي، والسَّبب هو تغييب الآخر، ومعاملته معاملة الخصم. وبدلاً من أن يعالج الدستور تلك الفِرقة وذلك الانقسام صاعدت بعض مواده منهما، وأصبحت كيانات العراق في مربعات متواجهة: شيعة، وسُنَّة، وكُرد.. الخ، وغاب العراقي من المسرح السِّياسي.

المؤلف في سطور

 رشيد الخيُّون
 باحث وكاتب عراقي
 دكتوراه في الفلسفة الإسلامية
 صدر له مؤلفات عدة منها مائة عام من الإسلام السياسي بالعراق والأديان والمذاهب في العراق وغيرها.