هناك ألفاظ تشيع في الأدبيات المعاصرة لا سيما أدبيات الإسلاميين؛ فيقال: فلان ملتزم، أو غير ملتزم! وهذا لفظ محدَث، لم يعرفه الصحابة ولا التابعون، ولم تكن بينهم تلك التقسيمات
يقول الأديب الفلسطيني حسين البرغوثي في روايته الطنانة: الضوء الأزرق؛ إن الأسماء قد تكون مصيدة أحيانا؛ فأنت قد ترى إنسانا تعجبك منه خصاله وخلاله الفاضلة، وأخلاقه الكريمة وتعامله الراقي، ثم تنفر منه نفورا شديدا حين تعلم أنه منتمٍ إلى الطائفة الفلانية، أو الدين العلاني، ما الذي تغير؟ لم يتغير شيء إلا أنك أدرجتَه تحت اسم. وضعت عليه تلك البطاقة التصنيفية التي رتبت في ذهنك بحكم التنشئة والتربية والتعلم مكانها منك تقبلا ونفورا.
بطاقات لاصقة، وتصنيفات، وتقسيمات يخترعها الذهن الإنساني تزيد بين الخلائق التفرقة والمشاكسة. قرأت مرة لمفكر غربي نسيت اسمه أنه قال: لو كانت ماهية البشر كلهم ليست إلا اللون الأخضر لتقسموا باعتبار درجة اللون. هذا أخضر غامق، وهذا أخضر فاتح، وهذا أخضر أفتح، وهذا أخضر أغمق!
شاعت تسمية من التسميات تفرق بين المسلمين أنفسهم لا أدري من اخترعها، يقال: فلان متدين، وفلان ليس متدينا، مع أن الجميع مسلمون، رجعت إلى لسان العرب فوجدت أن ابن منظور يقول: ودَينْتُ الرجُلَ تَدْيينا إِذا وَكَلْتَهُ إِلَى دِينِهِ، ثم يقول: والدين: ما يتدين به الرجل. أي إن المتدين هو من يتخذ دينا يتدين به! وعلى هذا فكل من له دين فهو متدين. بغض النظر عن دينه ما هو. فكل من له دين يأخذ به فهو متدين، سواء أكان مسلما أم نصرانيا أم يهوديا أم حتى وثنيا. وحين يقال: فلان غير متدين؛ فمعنى هذا أنه ليس له دين! أي هو اللاديني. هذا ما يقتضيه المعنى اللغوي.
يشيع في الأدبيات المعاصرة أن يقال: المتدينون يفعلون كذا وكذا، أو يرى رجل رجلا له لحية مثلا فيقول: فلان ما شاء الله متدين، أو يكون الرجل أصلا مصليا صائما ذاكرا لله محسنا للخلق، ولكنه لا يعفي لحيته، ولا يقصر ثوبه، ويتساهل في سماع الغناء، فإذا خالف هذه الخلال وفعل نقيضها؛ قيل: أما فلان فهداه الله وتدين! كأنه لم يكن من قبل متدينا.
ومثل لفظ متدين هناك لفظة أخرى تشيع في الأدبيات المعاصرة لا سيما أدبيات الإسلاميين؛ فيقال: فلان ملتزم، أو غير ملتزم! وهذا لفظ محدَث. لم يعرفه الصحابة ولا التابعون، ولم تكن بينهم تلك التقسيمات. هناك تقسيمات شرعية معروفة؛ مسلم، ومؤمن، وفاسق، وكافر، ولها شروطها المعلومة والمبينة تفصيلا في كتب العقائد وكتب الفقه. ولم تكن ألفاظ من قبيل متدين وغير متدين، ولا ملتزم وغير ملتزم من تلك الألفاظ التي يعرفها الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان.
بل إن عبارة (الملتزم) و(الالتزام) في الأدب هي من المصطلحات اليسارية؛ تسربت -كما تسرب غيرها- إلى دائرة الخطاب الإسلامي المعاصر، فالأديب الملتزم عند اليساريين هو من يلتزم بالمبادئ اليسارية في أدبه ويلتزم بقضايا الإنسان إلخ، شعرا أو قصة أو رواية أو غير ذلك، ثم انتقلت هذه العبارة -مع بعض التغيير- إلى الخطاب الإسلامي المعاصر وتجاوزت حدود التأطير في الأدب والكتابة إلى سلوك الإنسان المسلم؛ حتى قيل: فلان ملتزم، وفلان غير ملتزم، وقد التزم فلان منذ خمس سنين ما شاء الله تبارك الله!
رغم أن الأدب العربي طوال القرون السابقة كان أدبا حرا فيه كل شيء، وكان تعبيرا عن كل ما يجيش في النفس، فاستمع النبي إلى الرثاء وإلى المديح وإلى أغراض الشعر الأخرى، وظل الحال كذلك بلا تمييز بين أدب ملتزم وغير ملتزم. كل ما في الأمر أن الأدب والشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح.
ألفاظ ما أنزل الله بها من سلطان، وليست هي من الخطاب الشرعي في شيء، بل هي تنتمي إلى الخطاب الحركي التنظيمي إن أردنا الدقة، ولكنها دخلت الخطاب التداولي وفرقت المسلمين، بل الأسرة الواحدة بين من هو ملتزم، ومن هو عادي! يقال: فلان عادي، وفلان ملتزم!
أما قوام التفريق بين الملتزم والعادي؛ بحسب هذه الألفاظ المحدثة؛ فغالبا ما يكون في اللحية، والثوب، وسماع الغناء. فإذا كان المرء مصليا صائما حسن الخلق بارا بوالديه طيب القلب؛ إلا أنه لا يعفي لحيته، ويستمع إلى الغناء -مثلا- فهو غير ملتزم. وأما إذا أعفى لحيته، وتوقف عن سماع الغناء، وحرص على حضور المحاضرات الدينية فهو الملتزم.
وربما يعيش الملتزم هذا حالة من النشوة أنه (أفضل) من هؤلاء غير الملتزمين هداهم الله! -ولا أحد مستغنٍ عن هداية الله-؛ غير أن ما ينبني على هذا التقسيم المخترع من أحكام ليس له قيمة حقيقية؛ لا سيما إذا كانت عامة معايير التقسيم هي -على التحقيق- من المختلَف فيه فقهيا، ومما يسوغ فيه الخلاف، ومما لا يستحق أصلا أن يندرج في إطار تقسيمات كهذه.
ما أراده الله من عباده هو الإسلام والإيمان والإحسان، وتجنب الكفر والفسوق والعصيان، وكل مسلم عليه أن يحرص على أن يتصف بما يقربه إلى الله تعالى، وكلنا مقصرون، وكلنا ذو خطأ. وخير الخطائين التوابون.
أما صفات المؤمنين التي يريدها الله، وأما صفات الكافرين والمنافقين التي يدعو إلى تجنبها؛ فالقرآن الكريم فياض بالمعايير التي على أساسها نزن أنفسنا، أين نحن من تلك المعايير؟ هذا هو لب المسألة. والله يهدينا جميعا سبيل الرشاد، آمين.