حين غزا النظام العراقي الكويت، صيف 1990، استيقظ جيل على عناوين لطالما جاهد الآباء لمنعها من التسلل إلى مفردات الحياة اليومية. العدو العربي من بينها. كان حقيقة نازفة أخذت بساطة الانتماء المزخرف بقصائده وشعاراته السجعية إلى مواقف حادة واصطفافات سال حبر كثير في التبشير بها. وبعد أن كان التركيز منصبا على انتفاضة فلسطينية بلغت عامها الثالث، أخذ العالم وعيا يتشكل إلى أبجدية جديدة، وأسماء تشبهنا لم نتوان في صب جام الغضب عليها، ومساءلة انتمائها إلى الهوية الموجبة احترام الجار البعيد، والتاريخ المسكون بفكرة الأمة الواحدة.
الحدود المنتهكة تقلبت بين صورتين: طفل قاوم بالحجارة فانهال عقب السلاح الإسرائيلي على ذراعه، وقوات غازية زحفت إلى عاصمة عربية لتدمي البشر وتلغي المكان وتتلاعب بذاكرة جمعية.
منطلق الإكراه كان القاسم المشترك بين الحالين؛ يضاف إليه الانتشاء بقوة غير عاقلة ذهبت، في حالة الاحتلال الإسرائيلي، إلى كسر الإرادة المقاومة من باب التبسيط وتوسل العنف ضد رماة الحجارة، ورأت، لتبرير غزو الكويت، حلما لوحدة يتحقق من خلال الانقضاض على أمن مجتمع مجاور وتسمية دولته المحافظة التاسعة عشرة!
امتلأنا بالانتفاضة الفلسطينية الأولى ومشروعها الذي بدا أقرب إلى منطق الأشياء منه إلى غريبها. صح فيها العزم المناهض للاحتلال القائم على خرافة تقول بشعب بلا أرض، ورسمت إطارا لنقيض حضاري، كان الأمل أن نتحرر من سطوته، لنبدأ نموا طبيعيا باتجاه النهضة التي تشربت خطوطها العريضة من رؤية أبرزت إنهاء الصراع كخطوة أولى نحو الإقلاع التنموي، خاصة في دول المواجهة. وبغض النظر عن واقعية هذه الرؤية من عدمها، جاء غزو النظام العراقي للكويت ليسكن في جيل ما زال حديث عهد بالصراعات العربية، أزمة فكرية أضافت إلى عقود الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي احتلالا آخر شاع، مع الخوف منه، موال الأصل والفرع ونعي الدول الصغرى ودعوى الحق التاريخي. ذكر ذلك بعنتريات يمثل تجاوزها نقطة حاسمة في الانتقال من حال داروينية يطيب استعراض العضلات على مسرحها إلى واقع يكون للرشد فيه مساحات واسعة للتواصل وإدارة المشتركات.
تزامنت الصدمة مع انهيار القطب الثاني في العالم، فراجت أحاديث النهايات، وطرحت علامات استفهام عدة حول ملامح الواقع الجديد، خاصة بعد أن رشح من مقدمات المنتصر في الحرب الباردة احتفاء له سمت الآيديولوجيا ولغتها الظافرة، أوصل إلى ما خطه فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير (1992). وهي نهاية لم تعن، بحسب فوكوياما، إلا تفوقا لنموذج الديموقراطية الليبرالية وقدرتها على التكيف مع المستجدات ومعالجة تناقضات المجتمعات الديموقراطية على نحو يجنبها التداعي ويصيرها مثالا يحتذى. يكتب هذا وفي البال اتحاد سوفييتي كان قد ودع الساحة الدولية قبل وقت قصير، وترك خلفه حلفاء ومتعاطفين وناقمين على النموذج الأميركي من خلفيات متباينة لطالموا حذروا من سيادة الوجهة الرأسمالية وغلاة منظريها الذين لم يعرفوا من الحلول إلا ما أنذر بالخراب وتفتيت رساميل اجتماعية لحسها التضامني ضرورة ولوجهها الإنساني قدرة على إبقاء الحياة قريبة من قيمها الرافعة.
القرية الكونية (مصطلح
مارشال ماكلوهان أستاذ الاتصال الكندي)، التي تعاظم أثرها بعد تغطية سي إن إن المباشرة لحرب الخليج وانتشار القنوات الفضائية، كان من نتائجها انكشاف زمن استهلاكي مأخوذ بالحدود المفتوحة للبضائع والعلامات التجارية وسحر الصورة، حيث بولغ في تقديم الشكل كإجابة وجودية على حساب المضمون، ودعي إلى الجرح، الذي نثر غزو الكويت ملحا عليه، مجموعات تبنت العنف قاعدة وورثت من الحروب الآيديولوجية شعارات ليس من طبيعتها أصلا جبر المصاب أو إعادة الأرض إلى أهلها.