عدت قبل أيام مع سبعة من الأصدقاء وهم الإخوة عبدالله العميل وأحمد العبدالكريم وعبدالمحسن الماضي وناصر الضويان وعثمان العبدالكريم وخالد البانمي من رحلة جالت في عرض البحر على سبع مدن في أربع دول أوروبية، وكانت بحق تجربة مثيرة وثرية.
كان كل ما في هذه السفينة يثير الإعجاب بمن هندسها وصممها وبناها، ومن طحاها وتولى تقسيم غرفها وكبائنها ومن أعلى شواهقها حتى ارتقت إلى خمسة عشر طابقا ونصف الطابق، ومن قام بتوزيع سلالمها المدرجة ومصاعدها الكهربائية.
عجيبة هذه السفينة العملاقة بمسرحها الذي يتسع لما يزيد على ألف ومئتين مشاهد، والذي يصدح يوميا بالعديد من العروض والمسرحيات الاستعراضية.
تعددت مسابحها وملاعبها وتنوعت مطاعمها وصالات جلوسها، وفاق العاملون بها المئات بين بحارة، وبين من يخدمون في المطاعم وفي الصوالين ومن ينظفون الأجنحة والغرف التي تنوعت مقاماتها وأحجامها، فبعض الأجنحة والغرف متسعة ولها بلكونات تطل على البحر فيما يتبقى بعضها داخلية بلا إطلالة.
شاهقة وضخمة هذه السفينة التي يقطنها أكثر من ألفين وخمسمئة مسافر، فإذا أردت أن تقرب الصورة إلى ذهنك فتخيل إحدى الوزارات بموظفيها أو فندقا بنزلائه يتزحزح من مكانه، ويمخر عباب البحار، ثم إنك وأنت على متنه لا تشعر بحركة هذا الجاثم فوق الماء إلا ما كنت عليه مطلعا من سطح السفينة أو بلكونة الغرفة.
وإلى جانب كل ذلك فإن درجات التحوط والأمان عالية ومتقنة بدرجة ظاهرة من خلال التدريب على الطوارئ، والذي يعرض ميدانيا على الركاب عند كل محطة.
إنها صناعة جبارة وعملاقة ومعقدة تلك التي استطاعت أن تجعل من مثل هذا الجرم الشاهق يعوم بانسيابية فوق الماء، ويغادر بهدوء من ميناء إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى في انضباط صارم للمواعيد وتفويج سلس للركاب.
إن هذا الكروز أو هذه السفن التي تتولى القيام بزيارات للمدن عن طريق البحار والمحيطات تمثل إنجازا هندسيا متفوقا من حيث الحجم والإتقان وتوفير أسباب الراحة والمتعة والتثقيف، كما أنها تمثل صناعة بحرية رائدة.
عندما شاهدت هذه المنشأة العملاقة تعوم بخفة وسلاسة رغم ثقلها العظيم تذكرت الوصف القرآني الكريم في قوله تعالى (وله الجوارِ المنشآت في البحر كالأعلام)، وفي قراءتي لمعنى هذه الآية فإنها في رؤيتي الشخصية أمام تفسيرين، فأما أنها تشير إلى وجود السفن العملاقة في الأزمان الغابرة، ولكنها اندثرت مع انطمار تلك الحضارات تحت الأرض، أو ربما أنها إشارة ربانية مسبقة إلى ما ستصل إليه صناعة السفن المعاصرة وما وصلته فعلا حتى غدت ظاهرة كالجبال في عرض البحر.
أبحرنا مساء الإثنين من نابولي باتجاه مدينة ميسينا في إيطاليا التي وصلناها صباحا ثم غادرنا الكروز وتجولنا في المدينة وزرنا أبرز معالمها حتى أطبق علينا المساء، فعدنا عند غروب الشمس إلى السفينة لتبحر بنا مرة أخرى طوال المساء باتجاه مدينة فاليتا في مالطا، والتي وصلناها صباح الأربعاء، وفوجئنا بحيوية هذه المدينة ونظافتها اللافتة رغم اكتظاظ شوارعها بالزوار والمتسوقين. تمتاز فاليتا بكونها تتوفر على وجهين للمدينة أحدهما عصري وحديث، والآخر قديم وجميل يفوح في أرجائه عبق القدم وعراقة التاريخ، والحقيقة أن فاليتا قد منحتني انطباعا إيجابيا عن مالطا، وهذه نفس مشاعر رفقتي في السفر، غادرنا بعدها باتجاه بالما مايوركا في إسبانيا، وهي القريبة نسبيا من مالطا، ووصلناها عند التاسعة مساء، وتجولنا فيها لعدة ساعات ثم عدنا إلى السفينة عند الثالثة فجرا لنبحر باتجاه مدينة برشلونة، ثم لنغادرها لاحقا باتجاه مدينة مرسيليا في فرنسا، والتي تتميز بحسن وجباتها البحرية وبوفرة الإخوان من مغربنا العربي، وقد غادرناها بالتالي إلى مدينة جنوى في إيطاليا، وهكذا كنا بين نزول وارتحال حتى عادت بنا السفينة أخيرا أدراجها في اليوم الثامن إلى نابولي التي هي نقطة النهاية، وقد كانت نقطة البداية.
إنك لا تكاد تحصي المفارقات والعبر التي يمكن أن تلحظها طوال لحظات الرحلة على السفينة، سواء في صعودها أو هبوطها أو في مجراها ومرساها، فكأنها الدنيا تدور على نفسها، فتشرق شمسها ويظلم ليلها، فسبحان الذي أغطش ليلها وأخرج ضحاها.
سفينة عجيبة كأنها الحياة في تحولاتها، ترسو أمام إحدى المدن فيغادرها جمع من البشر ولا يعودون، ويدخلها حشد جديد من الناس، فكأنها تستولد عوضا عمن فقدتهم، فرحمها يتسع لكل مولود ولا ينقص من وزنها أي مفقود.
كان من المثير لكائن صحراوي مثلي أن يمكث ثمانية أيام بلياليها وسط معمعة البحار بزرقته الداكنة وامتداده اللجي الذي لا يحده البصر طوال النهار، أو بسواده الكالح وظلامه الدجوي أثناء المساء.
هو البحر في أحشائه الرهبة والغموض والأسماك والحيتان والشعب والمرجان، وهو الماء الذي يغمر ثلاثة أرباع كوننا الأرضي ويعيش معظمنا في ربعه اليابس، فسبحان من جعل الأكثر في الأقل، وجعل الأقل من البشر في الأكبر.
ثم شكرا لأصدقائي الذين تمتعت وسعدت برفقتهم في هذه الرحلة العامرة بالذكريات والمتوشحة بالمسرات، والحافلة بالدهشة والتغيير واختلاف المذاق، عما سواها من رحلات. والحمد لله رب العالمين.