كلمة عفوية خالدة قالها الملك خالد، رحمه الله، أثناء ترؤسه اجتماعا لمجلس الوزراء؛ حيث بدأ فيها الاجتماع بقوله: (اهتموا بالضعفاء، أما الأقوياء فهم قادرون على الاهتمام بأنفسهم)، ولعل هذا القول يمثِّل دليلاً لمن أراد الوصول بأقصر الطرق إلى قلوب الناس، كما يُعَدُّ إلهاماً للمسؤولين الراغبين في النجاح، لأن ذلك من شأنه أن يعمل على إحداث توازن في المجتمع، فلا يستأثر أصحاب المال والجاه بكل شيء على حساب السواد الأعظم من الناس، حينما يتسللون إلى أماكن صنع القرار وفرضه واستصداره بما يخدم مصالحهم، كما يكون بمقدورهم الضغط على المسؤولين ومحاربتهم بشتى الطرق من أجل إرهابهم وتصوير مآلاتهم في حال عدم الاستجابة لمطالبهم أو شروطهم، ولذلك تصعب مواجهتهم أو تحجيم نفوذهم، وهو ما يضطر بعضاً من المسؤولين المتعلقين بالكراسي إلى مهادنتهم ومداهنتهم وكسب ودهم رغبة في السلامة، فلا يختار الصدام معهم والمواجهة إلا المسؤول الاستثناء الزاهد بمنصبه في سبيل مبادئه وضميره، ولذلك فإنه ينال ثقة الإنسان العادي واحترام الجميع، بمن فيهم المتضررون أنفسهم إذا كانوا منصفين.
ولعل ذلك هو السر في تنامي شعبية بعض الشخصيات، اعتقاداً من المواطنين البسطاء أنهم ينحازون إليهم، مع أنهم في الواقع يساوونهم بغيرهم، وسأفرد هذا المقال للحديث عن واحد من هذه الشخصيات؛ وهو الدكتور توفيق الربيعة، محللاً عوامل نجاحه، وما أتوقع أن يكون عليه بعد تحوله لوزارة الصحة، فالربيعة عندما كان وزيراً للتجارة لم يُحلِّق بالناس بعيداً في سماء الأوهام ويعدهم بأشياء خارقة، أو يستحدث مشاريع جديدة كعادة بعض المسؤولين الباحثين عن نجاحات كارتونية، بل ركَّز على أشياء صغيرة لكنها مؤثرة بشكل مباشر في حياة الناس، بما يمكن اعتبارها حجر الزاوية في كل عملية إصلاح جديدة، على الخلاف تماماً من أولئك المسؤولين الذين يضخِّمون الوعود لتبرير عدم الوفاء بها، أو يصعِّبون الأشياء السهلة على اعتبار أن الحلول البسيطة لا تليق بمقام الوزراء!.
لا يمكن إنكار أن الوزير الربيعة هو من أكثر الوزراء قبولاً لدى المواطنين أثناء قيادته لوزارة التجارة، والحق أنه يستحق ذلك، مع اعتقادي أن المقارنة بين الوزراء بهذا الشكل غير منطقية، فوزير التجارة مثلاً يكفيه في كسب رضا الناس أن يغلق فرعاً لشركة سيارات معروفة أو معرضاً شهيراً أو مكتباً لشركة اتصالات، بينما وزير الصحة يكفي لإسقاطه خطأ طبي يقع في قرية نائية تظهر للمرة الأولى في نشرات الأخبار، كما أن وزارة الصحة في الغالب لا يراجعها إلا مريض أو زائر أو مرافق، وتكون النفسية عندها في أدنى درجاتها، أما وزارة التجارة فقد لا يحتاج المواطن إلى دخول مبناها من ولادته وحتى موته، بينما ارتباط الناس بوزارة الصحة من المهد إلى اللحد، ويحتاجون إلى التواصل معها بشكل دائم، إضافة إلى أن أعداد موظفيها لا يقارن بأعداد موظفي وزارة التجارة، علاوة على أن هناك إجماعاً بين خبراء الإدارة العامة على أنه لا يوجد مرفق تصعب إدارته كما تصعب إدارة المرفق الصحي، وهذا ما يجعلني أتوقع أن تكون شعبية الربيعة مهددة بالتراجع أو الانهيار، بل أخشى أن يكون حمله لحقيبة الصحة بمثابة مسحه من ذاكرة الجماهير، إذ قد يصعب عليه مهما كانت كفاءته الإدارية أن يصلح وزارة غارقة في البيروقراطية وعلى درجة عالية من البطء والترهل، ما لم يحصل على دعم استثنائي شبيه بما حصل عليه الدكتور غازي القصيبي، حين منحه الملك فهد، رحمه الله، صلاحيات واسعة من أجل تطوير هذا القطاع، وقال له بالحرف الواحد: أعدّ الخطاب الذي يتضمن تفويضك بالصلاحيات المطلوبة وسأوقعه، كما سُمِحَ له بالتحرك أسرع من المعتاد فيما لو رغب الحصول على اعتمادات مالية ضمن ميزانية الوزارة، ويا لِصعوبة المهمة التي سيواجهها الربيعة إذا كان سيطبق أفكاراً جديدة اعتماداً على رجال يعتنقون ذات الأفكار القديمة.
ربما يجد الربيعة نفسه في صراع بين دوافعه الأخلاقية والمهنية، وبين تناقضات مجتمعية، تريد الأشياء وأضدادها، فالجموع قد تطلب من الوزير خدمات أفضل ووزارة بلا أخطاء طبية، وفي نفس الوقت ربما يستثيرها تجمع لخريجين تعذر توظيفُهم لأسباب مهنية تتعلق أحياناً بالحد الأدنى من أساسات المهنة!، وقد يتضاعف هذا الضغط فيما لو دخلت وسائل إعلام على الخط منقادة خلف شعارات خادعة كالسعودة والمظلومية وغيرهما، وما إن تحدث الأخطاء حتى تراها أول من يهاجم الوزير على اعتبار أنه مهمل لا يعبأ بصحة الناس وأرواحهم، ولا حلَّ له إلا بالإقالة أو الاستقالة!، كما حدث مع وزير الصحة الأسبق الدكتور عبدالله الربيعة، حين أصدر قراراً جريئاً بإغلاق المعاهد الصحية، تلك المعاهد التي لم تكن أكثر من دكاكين تبيع الشهادات لكل من أراد أن يتعلم الطب في رؤوس الناس، وما زالت تلك الأعداد الوفيرة من الخريجين تمثِّل عبئاً على وزارة الصحة، إذ لا يمكن إعادة تدريبهم ولا استبعادهم أو تحويلهم إلى أعمال إدارية، فظلت مرافق الصحة شبه معطلة في بعض كوادرها بعد أن تم إحلال تلك الأعداد مكان أكفاء مؤهلين لمجرد أن أولئك سعوديون، فكانت النتيجة أن حاربه الجميع بمن فيهم الصحفيون والكتاب، وقالوا: إن وزير الصحة يحارب السعودة!.