صفة التشدد تُلصَق بالسعوديين، وتُعمَّم عليهم في اتجاه التنميط لهم بما يخدم أعداءهم، ويخدم بعض الأجندات الحزبية الدينية التي تستخدم الدين وسيلة للتسلط والإخضاع
هناك ثلاث صفات يتكرر إلصاقها بالسعوديين، وتتشارك في اقتضاء الترفيه الحديث عنها، بقدر اقتضاء كل منها الحديث عنه.
أولها: الدلع صفة التربية المسترخية المدللة الناتجة عن توافر النعمة ومتطلبات العيش الرغيد، بحيث لا يكتسب الفرد قدرة على تحمل أعباء العمل ومشقات الحياة، ولا صبرا وجلدا على الشدائد.
وإذا كان في إلصاق صفة الدلع بالسعوديين تعميم، فإن في كل تعميم للصفة حجابا على التفاصيل وتعمية على الاختلاف. ولذلك ينبغي أن نفهم زاوية الوصف بالدلع للسعوديين التي تقصد في أبرز تجلياتها تبرير أصحاب الأعمال السعوديين الاعتماد على غير السعوديين، لرخص أجورهم واضطرارهم إلى القبول بالشقاء والكدح الذي لا يحترم إنسانيتهم.
وتتخذ دوائر إعلامية وثقافية من خارج المجتمع السعودي صفة الدلع لقولبة الرؤية تجاه السعوديين، وتنميطهم وسجنهم في تصورات متنافرة مع العمل والإنتاج والجدية، لأسباب أهمها المنافسة على سوق العمل السعودي. وقد تكون صفة الدلع –إلى ذلك- جزءا من وعي ثقافي مرَضي يشبه أن تتلبس المرء تصورات عن ذاته تُفْقِده الثقة في ذاته والمسؤولية عنها.
العلاقة بين الترفيه والدلع، تنبع من الصفة السلبية للدلع التي تجعله منافيا للجدية وتحمُّل المشقة والرغبة في العمل؛ فالترفيه يقع في هذه المنطقة تحديدا من حيث هو علاقة مع اللهو والتسلية واللعب والمرح، ومفارَقة –وإن كانت مؤقتة بالضرورة- للجدية ومشقة العمل.
هكذا ليس للمدلعين حاجة إلى الترفيه بل حاجة إلى العمل. ليس لهم حاجة إلى اللعب بل إلى الجد، ولا إلى الحرية بل إلى الاضطرار. وإذا كان الدلع صفة سلبية؛ لأنه دلالة على الرخاوة والتطبع بروح الاستهلاك وسلوك العطالة وفقدان الذاتية والاعتماد على الغير، فإن الترفيه –عكس ذلك- صفة إيجابية؛ لأنه لا يمتلك معناه في صحبة صفات الدلع تلك.
والنتيجة –إذن- هي أن علاقة الترفيه بالدلع، تكشف لنا مقدار التنافي بينهما، بما يجعل الترفيه مقتضى العمل والجدية والضرورة، ويجعل فكر التخطيط للترفيه في أي مجتمع، متطابقا تماما مع الفكر الإنتاجي: فكر الشغف بالعمل والدعوة إليه وتطبيع الوعي به في المجتمع، بل يمكن أن نتصور علاج الدلع ورخاوة الحس العملي، في تعميق وعي سليم بثقافة الترفيه أكثر منه في أي شيء آخر.
وثاني الصفات المشار إليها أعلاه: البَدْوَنة، فعلى الرغم من أن البداوة منبع خلال حميدة، وطور طبيعي من أطوار المجتمعات البشرية، ولا يمكن تصور العلاقة بينها وبين المدينة من جهة التراتب في القيمة، فإن إلصاق صفة البداوة بالمجتمع السعودي قَصْدٌ إلى تعميم صفة القطيعة بينه وبين الحضارة والمدنية ومستلزماتهما. ويمكن أن نتفهم هذا القصد من جهة المستفيد الذي يحصد نتيجته؛ فزاوية الوصف بالبداوة تُبرِّر تقليدية المجتمع السعودي وجموده التاريخي تبريرا يخدم مصالح خصوص تجاري ورأسمالي، يغدو كل تقدم أو تطور تهديدا لها، وتُبرِّر سجن المجتمع السعودي في نمطية تُنَافِر التمدن والتفاعل مع العصر وتُسهِّل الاستعداء عليه.
الترفيه، في هذا السياق، علاقة مع المدنية والتحضر لا مع البداوة؛ لأنه دلالة على وعي أكثر معرفية واستقرارا، وأدل على الشعور بقيد الآلية والعقلانية، وهذه دلالة خارج وعي الحياة البدوية. بل يمكن أن نتصور الترفيه فعل مَدْيَنَة للمجتمع، وأَنْسَنة لغلاظته وتوحُّش إحساسه.
أما الصفة الثالثة، فهي التشدد الديني؛ أي اتخاذ موقف التحريم والمنع والمحاربة للفنون المختلفة من: موسيقى وسينما ومسرح ورسم. ولبعض مناشط اللعب واللهو مثل رياضة النساء، وهو الموقف نفسه الذي يشيع رؤية سلبية وشديدة التحفظ تجاه السياحة والمتاحف والآثار... الخ.
ولا تنطبق هذه الصفة على عموم السعوديين؛ فالتلفزيون الرسمي يبث الموسيقى ويعرض الأفلام العربية والأجنبية، والسعوديون يسافرون إلى البلاد القريبة والبعيدة، ليستمتعوا بكثير من وسائل الترفيه البريئة التي لا يجدونها في مجتمعهم.
وليس الرأي الفقهي الإسلامي حتى من الفقهاء السعوديين موحَّدا في وجهة التشدد هذه. ورغم ذلك فإن صفة التشدد تُلصَق بالسعوديين، وتُعمَّم عليهم في اتجاه التنميط لهم بما يخدم أعداءهم ويخدم بعض الأجندات الحزبية الدينية التي تستخدم الدين وسيلة للتسلط والإخضاع. وبالطبع فإن المشكلات الناتجة عن فرض الرأي الفقهي المتشدد عديدة، لكن أهمها هنا ما ينتج عن هذا الفرض من إفقار الواقع من سعة البدائل وتعددها للترويح عن النفس، وصولا إلى العنف تجاه المختلف.
إن الترفيه –على عكس التشدد- علاقة مع الانفتاح لا الانغلاق، ومع السعة لا الضيق، ومع الإنساني لا المذهبي أو الإثني.
فإذا كانت الفنون والألعاب والمناشط السياحية تنطوي على مجاوزة مستمرة إلى الآخر، وانفتاح على المختلف ومعانقة للقيمة الإنسانية المشتركة بين البشر، وتساميا بالعواطف الأنانية والغريزية، وتأكيدا على الفردية وامتحان وعي الذات واستقلالها، والكشف عن التعدد والتآلف، فإنها بذلك تنطوي على ما يناقض التشدد. وليست محاربة التشدد لوسائل الترفيه الفنية والثقافية إلا لأنها تصنع بيئة وعي عصية على أفكار المتشددين ورافضة لعنفهم.
لا يوجد مجتمع من غير لهو ولعب وفنون، لكن ما اللهو وما اللعب وما الفنون في المجتمع؟
إنه السؤال الذي تقودنا إجابته إلى ضرورة الوعي بالترفيه الإيجابي، بوصفه علاقة مع العمل والمدينة والتسامح والانفتاح على الإنساني. أي بوصفه فعلا جميلا ومدنيا وإنسانيا، وهذا يوجب ألا نحصره في معنى الوسيلة خصوصا إلى الأيديولوجيا؛ لأن هذا الحصر يقضي على روحه وسعته، تماما كما يفقد اللعب حريته ويتحول إلى شغل حين يُقيَّد بقصد تنمية العضلات، أو تفقد القصيدة شاعريتها حين تُعد لغرض التكسب، أو اللوحة إنسانيتها لأنها دعاية عنصرية.