بإقامة حفلاتهم الموسيقية على مدرج تدمر الأثري منذ أيام، يكون النظام السوري (ومعه حليفه الروسي هذه المرة) قد تابع خطته التاريخية في ابتذال كل شيء جميل في ذهن السوريين، فالحفلات التي نظمت على وقع المجازر، وبالتزامن مع قصف الطائرات الروسية والسورية لمدن وقرى الشمال السوري، لا سيما مدينة حلب، نقلها التلفزيونان الروسي والسوري على الهواء مباشرة، في رسالة استفزاز للعالم.
وقد قدمت أوركسترا ماريينسكي الروسية حفلتان تحت عنوان صلاة من أجل تدمر. الموسيقى تحيي الجدران العتيقة، عزفت خلالهما مقطوعات لباخ وبروكوفييف وغيرها أمام حوالى 400 متفرج، يعرف السوريون جميعاً كيف يتم سوقهم إلى هذا النوع من المناسبات، فقد عاشوه لعقود طويلة، وشاركوا مرغمين في احتفالات ومهرجانات خطابية ومسيرات وحتى في محاضرات فكرية وأدبية، وهم يعرفون كيف يتم حشد الجماهير لإظهار أهمية مناسبات من هذا النوع.
ونقطتا الاستفزاز في هذه الحفلات أولا إقامتها في مكان ذي رمزية تاريخية كبيرة، لكنه أيضاً المكان الذي أخلاه النظام السوري قبل أشهر فقط لتنظيم داعش ليذبح المئات من جنوده أمام الكاميرات مباشرة، فضحى بالمدينة الأثرية ذات الأهمية الرمزية وبأرواح جنوده ليوصل رسالة مضللة للعالم بأن داعش هي جزء ممن يعارضونه، وهو بذلك أراد أن يقول: هؤلاء الإرهابيون هم أعدائي، وهم المعارضة السورية.
والنقطة الثانية هي تزامن الحفلات مع معارك قاسية يشنها النظام على الأحياء الآمنة في حلب، وهو ما دفع وزير خارجية بريطانيا فيليب هاموند ليخرج عن التقاليد الدبلوماسية البريطانية ويعلق على تنظيم حفلات موسيقية مستنكراً: إنها محاولة تنم عن ذوق سيئ للفت الانتباه عن المعاناة المتواصلة لملايين السوريين، وهذا يدل على أن لا حدود لما يمكن أن ينحدر إليه النظام، مشيراً إلى أنه حان الوقت ليقول الذين لديهم تأثير على الأسد كفى، في إشارة إلى روسيا حليفة دمشق.
وهذه الحفلات التي تمثل قمة الابتذال للموسيقى الكلاسيكية العالمية، وحتى لفكرة تنظيم حفلات موسيقية في أماكن أثرية، ليست الأولى من نوعها، فسابقاً عايش السوريون عشرات الأمثلة على ابتذال الأشياء الجميلة، ربما كان أشهرها هو استغلالهم لموسيقى الرحابنة ولأشعار محمود درويش ونزار قباني في سياستهم الإعلامية، فحتى اليوم ما زالت وسائل إعلام النظام تقتطع أجزاء من أغاني لفيروز أو قصائد لمحمود درويش بصوته، وتركبها على مقاطع ومشاهد لجيشه وميليشاته وهم يمارسون وحشيتهم وإجرامهم بحق السوريين، حتى لتبدو هذه الأغاني والقصائد وكأنها ألفت خصيصاً لهم.
فإحدى الإذاعات السورية دأبت منذ بداية الثورة السورية على وضع جملة من أغنية لفيروز تقول عندي ثقة فيك وبيكفي وتلحقها بالجيش العربي السوري، وقناة تلفزيونية أخرى صنعت عدداً من الكليبات التي يتداخل فيها صوت محمود درويش وهو يلقي قصائده الوطنية الشهيرة، أو القصائد التي تغنى فيها بالشام، يتداخل مع صوت المدافع والصواريخ والرشاشات، فيما جنود النظام يتدربون لخوض حروب الشوارع ضد شعبهم.
ربما كان أقدم هذه الابتذالات وأشهرها هو استهلاك إعلام النظام للخيول بعد وفاة باسل الابن الأكبر لحافظ الأسد، فعلى اعتبار أنه كان فارساً، بالغ النظام في عرض الخيل وسباقاتها وألف عنها الأغاني والأفلام والمقاطع القصيرة، وملأ الشوارع والمدارس والمؤسسات بصور الخيول، حتى كره السوريون الخيل، ولم يعودوا يطيقون رؤيتها، رغم أنهم كشعب شرقي، كانوا سابقاً من عشاق الخيل وكل ما يتعلق بها، لكن ابتذال النظام للخيول أخرجها من قلوب السوريين، وحولها لكائنات غير محبوبة، وهذا ما سيحصل غالباً للسوريين مع مدرج تدمر الأثري ومع الموسيقى الكلاسيكية، فهي من الآن فصاعداً سترتبط في أذهانهم بهذه الحفلات التي تقطر منها الدماء.
الملفت أن قائد الأوركسترا الروسي فاليري غيرغييف يحظى بشهرة عالمية 1996. وقد أحيا حفلات في مواقع دمرتها حروب أو كوارث طبيعية. كالحفل الذي أحياه في 2008 أمام المباني الحكومية المدمرة في تسخينفالي عاصمة أوسيتيا الجنوبية، وأخرى في 2012، في طوكيو تكريماً لذكرى ضحايا فوكوشيما النووية في 2011. كما نظم حفلات عبر العالم لجمع أموال من أجل ضحايا عملية احتجاز الرهائن في إحدى مدارس بيسلان في القوقاز الروسي.
ولكن القائد الفعلي للأوركسترا كان القائد إياه، أي فلاديمير بوتين، وكلمته التي وجهها بمناسبة هذه الحفلات، تجعل منه القائد العام للقوات الروسية العسكرية والموسيقية.