ليس بالضرورة أن نحب الغرب ونهلل، لأن العقلاء لا ينشغلون بعواطف الحب والكره بقدر انشغالهم بما يستوجب احترام الذات عبر تقدير المنجزات الحضارية للغير، فبعض المكابرة حقيقتها عجز

يطلبون منك تقعيد الحاضر وفق معطيات الماضي السحيق، فإن حاكمت الماضي وفق معطيات الحاضر يقولون لك: هذا ظلم للماضي، والصحيح أن تحاكم الماضي وفق معايير الماضي نفسه، فعندما تطرح مشكلة (العاملة المنزلية والسائق) للنقاش ما بين معايير حقوق الإنسان العالمية ونظام العمل والعمال يستنكرون هذا الأمر، ويريدون معايير شرعية تتكئ على فقه العبيد والجواري، فإن قبلت هذا منهم، ورجعت لفقه العبيد والجواري قبل ألف سنة، واستنكرت بيع البشر وشراءهم غضبوا منك بحجة أن هذا ظلم للماضي إذ تقيسه بمعايير الحاضر، طبعا ما دام هذا الماضي لا يحتمل محاكمات الحاضر، فكيف يكون مشاركا في صناعة الحاضر عدا أن يكون حاكما عليه.
استنكار بيع البشر وشرائهم في الوقت الحالي ليست له علاقة بالحالة التاريخية المصاحبة لظهور الدين الإسلامي، فالدين الإسلامي ليس من أركانه الخمسة التجارة بالبشر، ولا يقول عاقل بهذا، ولكن محاولة استدماج الماضي بالحاضر عبر تخريجات فقهية، لردم الهوة الفكرية، بقفزة فقهية، تعتمد القياس الفاسد على ما لا يقاس عليه، متجاهلين حتى الشروط الأصولية لمعايير القياس، وفق تخريج طفولي أكثر منه أصولي.
كل هذا لإيضاح الفجوة الكبيرة التي ستنتج عن قياس العاملة المنزلية والسائق وغيرهما في هذا القرن على ما كان يعتبر (شيئا قابلا للبيع والشراء)، فتلك مسألة فقهية انتهى زمنها، ومحاولة الفقيه الدخول في معايير العمل والعمال وتوجيهها شرعيا قد يوقع الفقيه في تخريجات تنتج جرائم قانونية وفق (جرائم الاتجار بالبشر)، وبعضهم يطرح مبحثا بعنوان (ماذا خسر المسلمون بإلغاء الرق؟)، فالمسألة ليست مجرد فقه، فالفقه الشرعي له مناطه الخاص والحصري وفق معطى لا يتصادم والتنظيمات الخاصة بالدولة الحديثة، وما نراه من تخريجات داعش الفقهية ليس إلا محاكمة الفقه التراثي القديم لواقع الدولة الحديثة، فينتج عنه ما استنكره العقلاء بكل مللهم ونحلهم، وإن أيده بعض المعتوهين هنا وهناك.
الإسقاط التاريخي الذي يغفل الزمن بحجة تسامي الدلالة يتناسى أن سمو الدلالة مبني على سمو (المقاصد)، هذه (المقاصد) سميناها شرعية أو لم نسمها فهي مما يُسَلِّم به كل العقلاء مسلمين وغير مسلمين، ويبقى المفهوم قابلا للتأويل والتطور، فما ذكره الأنبياء عن تساوي البشر في الحقوق والواجبات، طرحه توماس هوبز وروسو في نظرية العقد الاجتماعي كنهاية لعصر الحق الإلهي الذي كان يتوهمه القياصرة من ملوك أوروبا على شعوبهم تحت مبررات دينية، هذا على المستوى السياسي، أما على المستوى الاجتماعي فقد كان أبراهام لنكولن ممن قام بتحرير العبيد كمشروع ينهي هذا الرق المفروض عبر تجارة العبيد، واحتاج العالم الإسلامي عقودا طويلة ليدرك هذا المعنى في التساوي.
على مستوى المرأة حصلت ردة عنيفة باتجاه فكرة (الحرملك العثمانية) التي تحالفت مع معطيات قبلية تمنع الرجل أن يرى حتى وجه زوجته -أحدهم يفاخر بأن جدته عاشت مع جده طيلة عمره ولم ير وجهها- لتتجاوز حتى ما هو موجود في التاريخ الإسلامي من ضوابط هدفها دفع الأذى (أن يعرفن فلا يؤذين)، وليس هدفها (درء الفتنة، لأن الفتنة متبادلة وضابطها غض البصر لكلا الجنسين)، لتصبح المرأة هي الجاني والضحية في نفس الوقت، فحتى تواجد المرأة في الفضاء العام عبر خروجها للصلوات الخمس جميعها في المساجد، كما في عهد النبوة والخلفاء، لم يعد موجودا، بل وظهرت قراءات فقهية تحيل ما كان عقوبة على النساء (القرار في المنزل/ الإقامة الجبرية) إلى واجب ديني تتميز به المرأة المسلمة عن غير المسلمة، ليصبح البقاء في المنزل جزءا من الهوية الاجتماعية للنساء باستثناء الغيتوهات التي يتم توفيرها لهن كمتنفس في المدارس المغلقة والأقسام النسائية المغلقة، ليصبح البيع والشراء المباح لكل إنسان في كل الأعراق والملل، يحتاج إلى قرار سياسي يمنح المرأة حقها الطبيعي كشخصية اعتبارية ذات كينونة طبيعية لممارسة التجارة بالأصالة وليس بالوكالة.
يظهر بعد كل هذا أن الحوادث الفقهية إن حاكمناها وفق معايير عصرنا فسنظلمها ونراها جرائم ضد الإنسانية أحيانا، وإن حاكمنا زمننا وفقها فسنجرم بحق أنفسنا وحياتنا الطبيعية ونظن أننا محسنون، عليكم بالمقاصد (الإنسانية) أو (الشرعية)، لا مشاحة في الاصطلاح إذا فهم العقلاء مناط الحكم، فلن يختلف مسلم ولا بوذي ولا مسيحي ولا يهودي على مكارم الأخلاق، وأن الكذب لا يجوز وأن السرقة لا تجوز وأن العدل والكرامة مطلب البشرية في كل الأرض، ولولا ذاك لما سافر خريج الشريعة لمواصلة دراسته العليا في القانون إلى بريطانيا وأميركا، ثم يعود بعضهم ليهاجم (علوم الكفار) ومناهجهم الفكرية، متناسيا أن مكانته الاعتبارية ولقمة عيشه الفاخرة قامت على هذه الشهادة التي منحه إياها هؤلاء الكفار!؟!! لكنها ليست آخر التناقضات.
ليس بالضرورة أن نحب الغرب ونهلل له كالأطفال، لأن العقلاء لا ينشغلون بعواطف الحب والكره بقدر انشغالهم بما يستوجب احترام الذات عبر تقدير المنجزات الحضارية للغير، فبعض المكابرة حقيقتها عجز، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وويل لأمة ليس على لسانها سوى النقمة على العالم من حولها، فاليابان نهضت بعد هيروشيما وناجازاكي دون الحاجة إلى تبريرات العجز في (وهم المؤامرة)، بل مساءلة للذات، ونقد صادق لها، رغم أن مبررات الوجع عندها أعلى من مبرراتها في أمة العرب التي تتناسى أنها من تنقض غزلها بيد أبنائها أكثر من يد أعدائها.