مساء ما قبل البارحة، هاتفني رجل أعمال سعودي من الوزن الثقيل ليسأل عن رأيي حول رؤية المملكة 2030. وفوراً أجبته: شعور متناقض مزدوج ولكن كيف؟ إحساسي المبدئي أن الرؤية ثورة تاريخية في عالم الإدارة ستأخذنا من نظرية الإدارة العامة إلى خيالات نظرية إدارة الأعمال، وهذا مطلب جلسنا نكتب عنه لسنين طويلة والفارق ما بين النظرتين شاسع واسع، وسنترك قراءته وتحليله للمتخصصين، لأن توضيح هذا لن يكتمل في مقال شارد. وفي المقابل، وعلى النقيض، سأكتب صادقاً مؤتمنا إن قلت إن تطبيق هذه الرؤية يبدو صعباً ما لم تحدث لدينا ثورة حقيقية في كتائب الموارد البشرية التي تدير قطاعاتنا الحكومية اليوم. نحن، وبكل صراحة، لدينا عشرات آلاف الهياكل الإدارية التي امتلأت أدمغتها بالتعاميم والقوانين، وتذهب كل صباح إلى مكاتب القرار الإداري الوطني في هوس بنظرية الإدارة العامة.
دعونا نكتب هذا الصباح شيئاً يشرح الفكرة: قبل عدة أعوام كنت مع الزميل الدكتور عبدالله العثمان، وهو يأخذني إلى أبراج وقف جامعة الملك سعود، وكان يتحدث عن دخل سنوي يوازي خمس ميزانية الجامعة ومن مال القطاع الخاص، قلت له فوراً: وماذا بعد؟ أجاب.... نحن في الطريق إلى منح فرصة استثمارية لإقامة أكبر مول تجاري في الشرق الأوسط على الأرض الغربية الفضاء من الجامعة، وإذا تحقق هذا الحلم فسيكون باستطاعتنا تمويل نصف ميزانية الجامعة. وبالطبع، انتهت فترة مدير الجامعة ومضى إلى سبيله فلا أعرف ماذا حصل فيما بعد، ولكنني متأكد أن نظرية الإدارة العامة تبقى كما تقول الجملة الإنجليزية (one man show).
خذ في المثال الثاني: دعيت ذات مرة لعضوية لجنة أصدقاء المرضى في مستشفى عسير المركزي. كنا نشحذ القادرين على مجرد سرير أو قيمة بطانية، وهنا تكمن دهشة العوائق البيروقراطية لأن المساحة الغربية من الأرض الفضاء تكفي للاستثمار بعدة ملايين على أحد أهم شوارع المدينة. الأرض الفضاء التي يمتلكها المستشفى على الجانب الشرقي تكفي لإقامة أكبر مول تجاري بالمدينة، وكان له وحده أن يتكفل بثلث ميزانية المستشفى لولا كتائب البيروقراطية.
والخلاصة الأخيرة أنني قرأت في رؤية 2030 كل الأفكار الملهمة التي كنت أحلم بها لأهلي ومجتمعي ولكنني سأكون صادقاً صريحاً إن قلت هذه الجملة الصارخة: نحن بحاجة لا إلى ثورة إدارية فحسب، بل إلى محرقة وطنية نصب في لهيبها الأحمر آلاف التعاميم والأوراق البالية.