عمل البابا المشكور تجاه اللاجئين السوريين، لا يمكن إحالته إلى موقف الخطاب الديني المسيحي، بل إلى خطاب التنوير الفلسفي الإنساني

 علامتان بارزتان لا تخطئهما العين في زيارة بابا الفاتيكان فرانسيس الأول لمخيم اللاجئين السوريين في جزيرة ليسبوس اليونانية: أولاهما، إظهار البابا التعاطف الإنساني مع جموع مشردة من وطنها، منذورة لأقسى درجات البؤس والضياع، ومستجدية لضمير العالم ورحمته. والأخرى، أنه تعاطف من موقع آخرية بأكثر دلالات الآخرية تفاصلاً بين البشر. وتكتسب هاتان العلامتان خصوصيتهما من اجتماع فعل التعاطف وصفة الآخرية في علاقة مع الديني هذه المرة ممثَّلاً في رمزية البابا، وليس مع المدني والسياسي.
الديني، تحديداً، هو الدرجة القصوى للتمفصل مع الآخر، والتخندق ضده؛ وذلك لأن كل خطاب ديني يبني علاقته مع الحقيقة من موقع التملك المطلق والمعمم لها؛ فلا يبقى للآخر – من الموقع الديني للآخرية- إلا الإقصاء والتكفير والاحتقار والحرب... إلخ. ولا يُتصوَّر الآخر من هذا الموقع نفسه، إلا بصورة الغازي والشرير والمريب والنجس.. أو هو شكل يجري العمل على تحويل محتواه الإيماني، وكسب عقيدته؛ فآخريته الدينية تهديد مستمر للحقيقة الدينية التي يبنيها الخطاب لدى أتباعه. ولهذا يمكن قياس موقف النبذ للآخر في مقدار صلابته وجذريته وعنفه في أي مجتمع بمقدار تسلط الخطاب الديني عليه. ويمكن - بالحسبان نفسه- النظر إلى المساعدات الإنسانية والتعاطف مع البؤساء والمظلومين والمشردين؛ فلا تستطيع المؤسسات الدينية القيام بشيء من ذلك على نحو محايد تماماً.
هذا يعني –إذن- أن ما صنعه البابا تجاه اللاجئين السوريين، دلالة جديرة بالتأمل سواء في معانيها المباشرة، أو في معانيها الضمنية. إنها درس عالي المستوى في الإنسانية، ولا أظن أحداً يثمِّن العمل الإنساني، وينفعل بالتمجيد لصانعيه، لا يهتف بالشكر ويستشعر التقدير لكل من يعمل في سبيله كائناً من كان. وهو عمل يكتسب، في حالة البابا هنا، خصوصية، بوصفه استثناء من منظور العمل الخيري غير المحايد في المنظمات والمؤسسات الدينية، ومن التعاطف مع محنة الآخر الذي تقوم القطيعة معه من الموقف الديني الأصولي مقام القاعدة المنتظمة. ولقد كان الحدث كثيفاً في دلالته على الإنساني وترميزه، سواء في صور البابا وهو يقف مصغياً أمام النساء وأطفالهن، أو في حديثه إليهم وإلى العالم عن الضمير الإنساني المشترك، أو في اصطحابه ثلاث عائلات سورية مسلمة.
لكن صنيع البابا يكتسب، بوصفه فعلاً أخلاقياً سامياً، ومن موقعه بوصفه رأس الكنيسة الكاثوليكية، دلالة مسيحية أكثر منها دلالة على شخص البابا. وهذا معنى ضمني لفعله، يدفع إلى تساؤل نقدي عن موقف الخطابات الدينية الأخرى بما فيها الإسلام: ما مقدار تعاطفها مع الآخر من موقعها الديني؟!. إن البابا يزكي المسيحية بفعله هذا، ولن يتحرر معنى التزكية لإنسانية المسيحية إلا باقتضاء اللوم والانتقاص لإنسانية الخطابات الدينية الأخرى. وكان سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر صريحاً في التعبير عن هذا المعنى في محاضرته الشهيرة بجامعة ريجينسبورج الألمانية (12/ 9/ 2006م) حين وصف الإسلام بالعنف، ووصف المسيحية بالعقل والحب والتسامح. والجماعات الأصولية والإرهابية المنتسبة إلى الإسلام تقدم البرهان على هذه التصورات الإيديولوجية، وترسخ القناعة بها.
اللوم أو الانتقاص من الخطاب المسيحي للدين الإسلامي أو لغيره من الأديان يحيل بالقدر نفسه على تاريخ الكنيسة في جرائم حروبها الدينية، ومساندتها للتجبر الاستعماري، بما في ذلك المذابح ضد السكان الأصليين لأميركا، ومحاربتها للعلم ووقوفها ضد العقل حتى لقد حرمت قديماً كتب الفقيه والفيلسوف المسلم ابن رشد. ولذلك فإن عمل البابا المشكور تجاه اللاجئين السوريين، لا يمكن إحالته إلى موقف الخطاب الديني المسيحي، بل إلى خطاب التنوير الفلسفي الإنساني الذي نشأت عنه مفاهيم الدولة المدنية وحقوق الإنسان، وهي مفاهيم وحقوق تنسجم -بالبداهة- مع الدين في تراميه إلى الرحمة والعدالة المطلقة بين الناس. وإذا كانت الكنيسة المسيحية أجرمت فسيظل الإجرام باسم الدين -أي دين- كلما تمكنت جماعة من سياسة الناس وحكمهم بصفة كهنوتية.