حين يرحل قريب أو صديق تتقلص الدنيا قليلاً، يأخذ الفراغ شيئا من كل شيء، تتحول ذاكرتك لشريط سينمائي يتحرك بمواقف وضحكات لم تكن تعيرها انتباها قبلا، تتفاجأ بأنها بقيت في مكان ما من روحك، لا شيء يعود كما كان، حكماً ثمة من رحل ولن يأتي.
بشكل شخصي لا أحب المراثي ولا جوها البكائي، وأراها استهلاكا لزخم العاطفة الكبير المفترض، وخزين الشعور الجميل تجاه الراحلين أهلا وأصدقاء وزملاء، لكن أحب استذكار اللحظات أكثر، حين نفعل ذلك نثبت الزمن وحين نثبته نجعله مطواعاً قابلاً للتشكيل، نملأه بصور الأحبة الغائبين وملامحهم الجميلة، حواراتهم الأجمل، نعيدهم أحياء للحظات بلا إزعاج أو مشاعر مزيفة.
حين يرحل قريب تكون بحاجة لدمع أغزر، لكن حين يرحل صديق تكون بحاجة لهدوء وصفاء أعمق، يتحول لصورة حية على جدار غير مرئي، لو تذكر أيٌ منا محاولاته لكتابة رثاء ما، شعراً، مقالاً، خاطرة، لتفطن أنه استنزف فيض مشاعره الصادقة والحارة في الإطار لا الصورة الجميلة.
قبل أيام فقدت صديقا جميلا ووديعاً، نسائمي الحضور، هبة من هبات الحياة الجميلة، رجل يشبه نفسه صفاءً ووداً، لا أحاول أن أبكي ولا أريد، فمثله يليق بالابتسامات الضوئية وحماساته الفجائية لأشياء لا علاقة بينهما، غاب عن كل ما يستحق الغياب، عن كل ما هو زائف، وحضر في كل ما يستحق الحضور من مواقف وذاكرة وقيم.
ليست هذه الكلمات محاولة لقول شيء عن رجل وصديق مختلف ومميز، لأنه لا كلمات أو توصيفات أو جمل تستطيع المعاونة على الإحاطة بتفصيل الفقد وشرح الرحيل ومقاربة الحزن.
لكن تلويحة تحاول أن تليق بالراحلين وجمالهم، ومن حزن لآخر نحاول أن نرتب أنفسنا بتطويعها على الاعتياد أو على التوقع، لكننا من فقد لآخر نكتشف أننا أصبحنا أكثر رهافة وتدنت قدرتنا على المقاومة والتماسك. من رحيل لآخر يستمر الدمع في الجريان كنهر جبلي مجهول المصدر، متدفق كثيف ومستمر، وداعاً بدر السالم.