من يصنف الكتب إلى ضارة ونافعة فهو يريد تعقيم العقول، فتعجز عن مقاومة أصغر فيروس فكري يواجهها، كل الكتب نافعة ما دمنا لا نتوقف عن القراءة في كل شيء، ونؤمن أن المعرفة رحلة حياة، وليست شهادة بحثاً عن وظيفة أو جاه
القراءة الحرة من غير وصاية ولا هيمنة لم تكن يوماً مجرد كتب، الكتب طوطم القارئ، لكنها ليست كل القراءة، فنحن نربط الحرف جوار الحرف في الذهن لنفك شفرة المعنى لكلمة واحدة كما في سنتنا التمهيدية الأولى، وما زلنا نكبر ونواصل ربط الكلمة بجوار الكلمة، ثم الجملة بجوار الجملة، ثم المقطع بجوار المقطع كي نعرف فكرة الكتاب كما يجب لا كما قيل لنا، لنبلغ أعلى مستويات النظر الفكري، إذ نربط الكتاب بجوار الكتاب لنعرف حقيقة المشروع الفكري لمؤلف هذه المجموعة من الكتب، ثم نقرأ كتب حقبة كاملة في فن معين لنستخرج مزاج العصر، ثم نقرأ في كل العصور، وفي كل الفنون لتنقلب الآية، فبدلاً من أن نعرف العالم من حولنا، يبدأ العالم من حولنا يتشكل فينا، إنه كابوس القراءة يعيد خلق القارئ ليصبح كوزموبوليتيا وبدائياً، متناقضاً ومتناغماً، عمومياً وخاصاً، ميكروسكوبيا وتلسكوبياً، القراءة العميقة والطويلة مع الزمن تنحتك ولا تنحتها وتفني قديمك الآسن لتجعلك كالنهر لا يمكن أن يعبرك الناس مرتين إلا واهمين، فأنت العقل المتوقد المتجدد تعيش حوار الجماجم، وأنت الروح الشاهقة المحلقة فوق الأرواح الزاحفة.
بداية القراءة في أول العمر أنت دودة كتب، وبعد الأربعين أنت فراشة بين المكتبات، فهل أدركت حجم التغيير، الأولى تمضغ كل الورق، والثانية تمتص رحيق كل الورود، الأولى تزحف بنهم باتجاه الورق، والثانية تطير برقة باتجاه الأزهار، الأولى تفسد أكثر مما تصلح، الثانية بهجة للحياة وضرورة لها كي تعطي الأشجار ثمارها.
القراءة ليست كتباً، لكنها الرمز النموذجي لها، ومن لا يعرف القراءة نقول عنه أمي، متناسين الأمية التي نعيشها في أشياء أخرى كثيرة، وسبب ذلك أننا تائهون عن معنى القراءة الحقيقي، فالقراءة ليست الانتهاء من لمس الكلمات والجمل بعيوننا في ثنايا الكتاب من أول ورقة إلى آخر صفحة، القراءة توازي الإنصات في مسألة السماع، فمن يستمع فقط فلن تصله روح الصوت، الإنصات يعطيك القدرة على الامتزاج بما تسمع، وكذلك في عالم القراءة، مَن ينظر ويجمع بعينه الكلمات والجمل، فلا يظننَّ نفسه قارئا، القارئ الحقيقي يشعر بنفسه محلقاً خارج هذا العالم بعيداً عنه، هناك حيث المكتوب وقد امتزج به، ولهذا لا تقرأ ليقال قارئ، بل اقرأ لأن أباك في صغرك كان يقول: تخيل يا ولدي المارد الذي يريد إحضار عرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان من مقامه، لم يغلبه سوى ذلك الرجل الذي عنده (علم من الكتاب)، فاستطاع أن يحضر العرش قبل أن يرتد إليه طرف العين، ثم اعتقد كالأطفال أن هناك كتابا بين الكتب يستطيع منحك تلك القوة السحرية، وعش مهرولاً تحمل أمل الطفل وظنونه في أن وراء كل غلاف وعنوان سراً عظيماً يعطيك حقيقة هذا العالم، ومن يصنف الكتب إل ضارة ونافعة فهو يريد تعقيم العقول، فتعجز عن مقاومة أصغر فيروس فكري يواجهها، كل الكتب نافعة ما دمنا لا نتوقف عن القراءة في كل شيء، ونؤمن أن المعرفة رحلة حياة، وليست شهادة بحثاً عن وظيفة أو جاه.
مع الوقت تدرك أن القراءة ليست في الكتب فقط، فبالقراءة المفتوحة على أنواع الكتب تتفتق حواسك الأخرى لتعرف ذلك عندما تبدأ أذنك تتلمس طريقها من الصفوف الأولية مع الطرب الشعبي وصولاً لمراحل متقدمة ومعقولة في اكتشاف عالم الأصوات الأخاذ، فأذنك التي لا تتجاوز صوت الربابة والهمهمة بالطروق والشيلات ستقفز لتفهم لغة الكمان والعود والبيانو والقانون وصولا لسيمفونية أخَّاذة.
تعرف أيضاً أن عالم الصورة في الفنون التشكيلية الذي كنت تزدريه جهلاً، مليء بالأحاسيس المفتوحة على المعنى، فتدرك عجز الرسام التشكيلي أحياناً أن يكون فناناً لتكتشف أنه مجرد ناظم جيد للألوان، لكنه لم يكن يوماً فناناً، فتلك مسألة تختص بالموهبة، وليس التعليم.
تكون مع أصدقائك في زيارة متاحف تاريخية، وعندما تدخل المتحف وترى التماثيل العظيمة يجب أن تصدم نفسياً بشكل رهيب، إن عمرها يتجاوز أربعة آلاف سنة، المسافة التاريخية رهيبة والتمثال صامد في الزمن أمامك لترى فيه لمسة يد الفنان / النحات، كل هذه الآلاف من السنين فيا لهذه الأبدية الشاهقة.
داعش من حقها أن ترتبك من ألعاب العرائس فما بالنا بالتماثيل، إنها شيء بالنسبة لها يشبه السحر المخيف الصامد رغم أنوفهم كل هذه الأزمان الغابرة، إنه الفن يهز ثوابت الإرهابيين من جذوره فيستعيدون لحظات هدم الأصنام ليصنعوا قفزة للوراء توازي قفزة التمثال إلى حاضرهم، لكن شتان بين قفزة التمثال وقفزتهم، فيبقى الفن خالداً باتجاه المستقبل، ويبقى واقعهم في الماضي هاربٌ إليه، الفن يهز الإرهاب لأنه يجره بعكس تكوينه، الإرهاب يجر للخلف والفن يجر للأمام، الإرهاب يجرهم للموت والفن يجر للحياة، الإرهاب يجر للعدمية، الفن يجر للمعنى، الإرهاب لا يعترف بألوان قوس قزح كما يفعل الفن، بل يرى فقط أبيض وأسود، الفن يذيب الفوارق الطبقية، ويوحد الأمزجة، والإرهاب يؤصل عدم التكافؤ ويستميت دون ذلك، الفن يعطي البهجة بين الناس بلا تفرقة على اختلاف ألوانهم ومعتقداتهم، والإرهاب يقسم الموت بين الناس حسب اللون والمعتقد، والفن يحرك حب الحياة بكل الألوان والمعتقدات.
القراءة فن في القراءة وليست كتبا، القراءة حياة وليست مدرسة، القراءة شغف وليست واجبا، القراءة عقل يتخلص من أغلاله، القراءة قلب يبحث عن سلوى أو إجابة، القراءة الصامتة أعلى مراقي الراهب في محرابه، القراءة ملكوت الرب في مداد كلماته التي لا تنتهي، وآياته التي لا تنفد، القراءة فاتحة، القراءة صاد وسين ونون، القراءة أبجدية حتى في بصمة اليد، انتظرت قارئاً حصيفاً يقول: أنت بهذه البصمة لا تشبه أحداً في هذا العالم، احذر من بصمتك أين تضعها فما تلمسه لن يدل على أحد سواك، فيا لبؤس الحياة إذ نختزل القراءة في الكتب، ويا لخسارة العقول العظيمة في الحضارة الإنسانية ــــ حفظ الزمن مكتوبها خلال خمسة آلاف عام ــــ إن لم نكرم عقولنا وقلوبنا بشرف لقائها والاقتراب منها عبر القراءة في الكتب.