التبعية والاستقلال تعبيرات لوصف علاقة الإنسان بالآخرين. التبعية عادة ما يقصد بها انسجام مواقف الذات مع جماعة محددة من الآخرين نتيجة للثقة التامة بهم أو نتيجة للخوف منهم. الاستقلال في المقابل يعني عدم وجود هذا الانسجام بين الذات وتلك الجماعة المحددة من الآخرين. عادة ما تعتبر الموافقة علامة على التبعية، والاعتراض علامة على الاستقلال. لدينا التابع الذي يوافق على ما يقوله محيطه، ولدينا المستقل الذي يعارض أو يختلف مع ما يراه محيطه. هدفي في هذه المقالة هو إرباك التقسيمة السابقة من خلال تقديم حالات مخالفة لها تصبح فيها المعارضة تعبيرا على التبعية، والموافقة تعبيرا عن الاستقلال. ما أريد قوله بسيط: ليس كل موافق للجماعة تابعا وليس كل معارض لها مستقلا. سأحاول نقل المعيار من الموقف من الجماعة إلى الموقف من الذات، والقضايا أولا في سياق أخلاقي سابق للمعرفي.
الحالة الأولى التي يفترض أن تساعدنا على إرباك التقسيمة السابقة هي حالة المعارض التابع. العبارة تبدو في ظاهرها متناقضة، فالمعارضة تتعارض مع شرط التبعية وهي الموافقة. أحتاج هنا أن أقدم مثالا على المعارض التابع لتوضيح هذه الفكرة. المعارض التابع هو شخص لا يزال يتحرك بتوجيه من الجماعة، ولكن في الاتجاه المعاكس. الحالة المعروفة للتبعية أن يتحرك الفرد بتوجيه الجماعة موافقا لها. هذا الفرد ليست لديه حسبة مستقلة للأمور. السؤال الأساسي عنده هو: ما رأي الآخرين (تحديدا السلطة المعرفية والاجتماعية الخاصة به) في الموضوع. بحثه في الموضوع خطوة تالية لموقف الآخرين من الموضوع. التابع المعارض لا يزال يدور في ذات الفلك، وهو أن مواقف الآخرين، وليست حسبته الخاصة، هي ما يحدد موقفه من القضايا. الفرق أن قيادة الجماعة له تأخذه باتجاه المعارضة بدلا من الموافقة. العنيد مثال جيد على التابع المعارض. المعاند يتحرك نتيجة لمن حوله. إن تحركوا لاتجاه اليمين تحرك باتجاه اليسار، وإن تحركوا باتجاه اليسار تحرك باتجاه اليمين. نلاحظ هنا أن حركته الخاصة محكومة بحركتهم، فهم لا يزالون يتحكمون في توجهاته. على مستوى فردي في العلاقات بين الأفراد سأحاول التفكير في هذه الحالة: مجموعة من الأشخاص في مجلس وبينهم شخص من النوع عالي الصوت والمتحمس لمواقفه. مواقف الجالسين منه متفاوتة، منهم س الذي انبهر بهذه الشخصية وآمن بها وأصبح موافقا على غالب ما تقول. لدينا كذلك ص الذي نفر من هذه الشخصية وأصبح مخالفا لها في غالب ما تقول. ما أريد أن أقوله هنا هو أن س وص يختلفون هنا في الاتجاه، ولكن موقفهم من هذه الشخصية واحد، موقف هذا الشخص هو ما سيحدد موقفي.
س اختار الاتجاه الموافق وص اتخذ الاتجاه المعاكس. لكن في كلا الحالتين لا يزال هذا الشخص هو من يحدد موقف س وص. من هذا يمكن فهم ما يقوله بعض الدعاة من أن الشخصية المعارضة بحدة لك يمكن أن تتحول إلى شخصية تابعة إذا تم حل الموقف الشخصي معها. هذا تعبير دقيق يشير إلى أن المعارضة (يمكن) أن تكون علامة على التبعية لكنها مشوبة بإشكال شخصي بين الأفراد لا أكثر. يمكن هنا أيضا أن نجد معنى في المقولة الرائجة لوصف المعارض الدائم خالف تعرف. العبارة تشير إلى أن الهدف الحقيقي للمعارضة هنا هو الشهرة أو تعزيز المكانة الاجتماعية، وهو الهدف ذاته الذي يمكن تحقيقه بالموافقة وتبني مواقف الأصوات العالية في الجماعة. بالتأكيد العبارة السابقة يمكن أن تستخدم في حق وباطل، لكن لها معنى محتمل مهم في تحليل المواقف المعارضة.
إذا كان التحليل السابق دقيقا فإن الموقف من مواقف الآخرين ليس معيارا دقيقا لتحديد الاستقلال من التبعية. المعيار الذي أقترحه هنا هو أن ما يحدد التبعية من الاستقلال هو موقف الذات من القضايا وليس من الآخرين. أي أن تكون القضايا لا الآخرين هي المحرّك الأساسي لحركة التفكير. الذات المستقلة هي من تجد طريقها للتفكير في قضاياها بغض النظر عن مواقف الآخرين. هذا لا يعني بالتأكيد القطيعة مع الآخرين، ولكنه يعني التواصل معهم على مستوى لا يحسم الموقف من البداية باتجاه الموافقة أو المعارضة. الاستقلال هنا يعني أن يكون التفكير في القضايا ذا أولوية على التفكير في مواقف الآخرين من هذه القضايا. مع تجاوز مواقف الآخرين تصبح العلاقة مباشرة مع القضايا والمواقف تعبيرا عن خيارات الذات الحرة. المعيار هنا لا يخلط بين الاستقلال والصواب أو بين التبعية والخطأ، بمعنى أن المستقل قد يخطئ والتابع قد يصيب. معيار الاستقلال والتبعية يعبر عن موقف وجودي وأخلاقي سابق للموقف المعرفي. الاستقلال هنا فضيلة ليس لأنه موقف من الآخرين، بل لأنه تعبير عن تحمل الإنسان لمسؤوليته الأخلاقية والوجودية في حياته. أي أن يتحمل الفرد مسؤوليته الأخلاقية في التفكير والبحث فيما حوله، وأن تكون مواقف في الحياة مهمة لدرجة محاولته التواصل معها مباشرة. المستقل أخلاقي لأنه يعتقد أن القضايا التي حوله أهم من أن حساباته الأنانية في العناد أو راحة البال. المستقل هنا يعبّر عن الاهتمام بالآخرين بالمعنى العميق للكلمة. الاهتمام بالآخرين وقضاياهم لا يجب أن يكون مجرد نتيجة لعلاقة الذات بهم، بل هو سابق أخلاقيا لذلك.