بينما تمر الذكرى الثالثة عشرة للغزو الأميركي للعراق، فإن الدمار المهول، وحجم الصراع والعصابات وجلجلة القنابل والعمليات الانتحارية والمهجرين والقتلى والأشلاء يبدو عصيا حتى على المخيلة، على المرء أن يكون عراقيا، هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تفهم بها بالتمام شخصا يحكي عن الدوي والحطام اليومي طيلة ثلاثة عشر عاما، عن العويل الليلي والمفقودين ومزق الأجساد، وعن ملامح العائلة والقربى والجيران والأصدقاء الأخيرة، ملقاة من حين لآخر عند عتبة البيت.
بإحدى الليالي قبل سنين، كنت برفقة أصدقاء، كل منا من بلد، وكما يفعل الأصحاب رحنا نعدد الحكايات، صديقنا العراقي لم يتحدث كثيرا، لكنه أخرج صورا، قال إنه لم يعد أحد منهم موجودا، إلا في جيبه فقط. لن تجدوا عراقيا لا يحمل صورة ما. تذكرت هذه اللحظة المؤلمة على سبيل المثال وأنا أقرأ نزهة بحزام ناسف، وهذا العنوان المربك، والذي يبدو ساخرا وصادما للوهلة الأولى، يعود إلى المجموعة الشعرية الفائقة التي أصدرها الشاعر العراقي كاظم زياد خنجر، عن دار مخطوطات لهذا العام 2016، وهي من أولها لآخرها تضعك بشعريتها الأليمة وجها لوجه أمام الفجيعة، وبشكل ما تدفعك لاعتبار الشعر عملية انقضاض على الموت، تجرده من قدرته على الإفناء، بالرغم من كل ما ينطوي عليه من المهابة والوحشية. في هذه النزهة يقول كاظم: موتك ليس كارثيا، لدرجة أن نحفر الأرض، ولكن يحتاج الكثير من الوقت، فها هي جثتك تتفسخ على السرير منذ شهور، وفي كل يوم أجمع الخارج منها، أضعه في حوض زجاجي، فمن نحبهم علينا أن نربي دودهم عندما يرحلون.
إن أحدا لا يعرف مقدار الشعور الذي يتركه نص مثل هذا، ولا ماهيته، إنه يتركك معلقا ما بين المخيلة والواقع، ما بين الافتتان بالشعر وحجم الجزع الكامن في الصورة. نص آخر لكاظم، يقول: على رصيف المسجد جثث ناشفة، لا نعرفها، لهذا يأتي أناس لا نعرفهم، يشترون الخشب، يجهزون التوابيت، بينما يقشر المؤذن بصوته الدماء اليابسة عن سكاكين القتلة. هذا شيء قليل من نزهة كاظم، الذي لن تجدوا في أكمامه إلا الشعر، وكما العراقيين، لديه صور كثيرة للوجع والمفقودين، لم يعد لهم من مكان إلا في روحه وجيوبه، وضع بعضها في هذا الكتاب.