لو أن أولئك الأغرار الستة الذين غدروا بقريبهم علموا أنه لا يمكن تطبيق تلك الفكرة المزعومة (الخلافة)، وأنها مسألة قد قرر الفقهاء والأصوليون أنها تكليف بما لا يطاق لربما عادوا من ضلالهم

 مواجهة الإرهاب خاصية فريدة لرجال وزارة الداخلية في حربهم الحقيقية والاحترافية ضد الفكر الإرهابي التكفيري المتطرف، سواء كانت تلك الحرب ثقافية أم واقعية عسكرية.
إن الستة الإرهابيين المقتولين كانوا قبل قتلهم قد فكروا ثم قدروا وقرروا أن البغدادي هو الخليفة الأوحد المستوجبة له الطاعة، وإن كانت بما لا يُستطاع، ولا بما يُقتدر عليه، ولا بما يفهمه القاصي والداني ممن يدينون بدين الإسلام الطاهر من كل شوائب التطرف والخروج والفتنة، فكيف تأثر هؤلاء الأغرار علما وسنا بهذا الخليفة الأوحد؟! وكيف استجلبوا الوقت والمكان حتى يقتنعوا بفكر داعش؟ وكيف فهموا تحولات تنظيم القاعدة الفكرية؟ وكيف وصلوا إلى قناعات تنظيمية بجمع تمويل مالي ودعم لوجستي؟
سؤال فلسفي وعلمي وتربوي ومؤسساتي وحكومي ودولي، لا يمكن لمفكر أو كاتب أو منتدى أو دورة في أقصى البنايات الفاخرة أن تضع جوابا لهذا التساؤل الخطير والعظيم، بيد أن حال هؤلاء الأغرار ينطبق عليه: (لو أن السماء أمطرت معرفةً فإني سأمد يدي، لكني لن أتحمل مشقة البحث عنها)، فهم لم يبذلوا أي جهد أو مشقة في البحث والتحري قبل الإقدام على اعتناق ذلك الفكر المتطرف التكفيري الخطير. وإذا ما بحثنا فكريا في كل زاوية، ومن خلال كل اتجاه، واستنطقنا كل فكرة، وتأملنا كل خاطرة، وإذا ما استقرأنا كل كتاب، وتوجهنا إلى كل مؤلفٍ قديم ومعاصر فإننا نجد أن تلك الفئة المتطرفة التكفيرية المختطفة لفكر أبنائنا تتجلى فيها كل الأخطاء المستظلة بالخبل والجنون المرتبطة بالتأويلات والفهوم العلمية بكل مساراتها اليقينية والراجحة والظنية المرجوحة والمرفوضة من حيث السياقات العلمية والتاريخية، لأنها ليست طالبة للعلم والحق، ولا مستخدمة أصول البحث (البسيطة والمعقدة) العلمية المعاصرة والقديمة على حد سواء، وهذا جزء من الاختلالات الفكرية في جسد وعمق تلك الفئة المتوحشة فكريا وعملياً، ومن تلك المسارات التي ترسخت لدى داعش ولدى كل قادة الفكر الإرهابي التكفيري المتطرف فكرة (الخلافة) والدفاع عن أهلها، وسواء كان قادة الفكر هؤلاء منظمين مع داعش أم كانوا متعاطفين معها ويدافعون عنها مثل أبي محمد المقدسي (عصام البرقاوي) المستكن بكل بهدوء وطمأنينة ليقذف بكل دليل واستدلال للدفاع والمناكفة عن تلك الفئة المتطرفة (داعش) كما في مؤلفه الجديد (قتل عاد وقتال الاستئصال بين الرغبات الدولية وشيخ الإسلام)، وهذا المؤلف على صغر حجمه إلا أن فيه إدانة واضحة ويقينية لأبي محمد المقدسي في أنه الفكر والعقل المدبر لجميع الأفكار المتطرفة والقتالية والتكفيرية منذ نشأتها المعاصرة في باكستان وأفغانستان والعراق والبوسنة والهرسك والشيشان وسورية وحتى وقتنا المعاصر.
هذا المؤلف هو ينبوع الفكر الداعشي في تبني التنظيم فكرة الخلافة وكفر من لم يُبايع خليفة داعش المزعوم أبا بكر البغدادي، وأن وصم داعش وإمامهم المزعوم أنه من الخوارج هو خطأ علمي يرتكبه من يقف في الطرف الآخر من فكر داعش! إن المسار الفكري الفلسفي لداعش ولكل التنظيمات الإرهابية التكفيرية في تحقيق واستظهار الخلافة هو قائم على مقدمات كلامية أصلها فقهي خلافي بأنه لا يجوز تعدد الأئمة (الحكام) في زمن واحد وفي مكان واحد، ولأنه المسلم لا يجوز أن يُمسي دون أن تكون في عنقه بيعة، بيد أنه لا يجوز أيضا أن يكون للأمة إمامان (حاكمان) في وقت واحد، وأن المسلمين لا بد لهم من إمام (حاكم)، فإن تلك المقدمات هي من استعمالات الفكر المتطرف التكفيري الجهادي، خصوصا داعش لكسب كل غر ليس له فهم حقيقي في نصوص الشريعة وفقهها ومقاصدها، فماذا يفهم أولئك الستة الذي أقدموا على غدر وخيانة قريبهم وقتله استنادا إلى فكرة الخلافة، وأن البغدادي هو الخليفة المنصوص عليه في الكتاب والسنة مع بعد المسافة الزمنية والمكانية والثقافية والعلمية والجغرافية بين أولئك النفر الستة وبين ذلك البغدادي المزعوم خليفة!؟
إن مسألة تنصيب الحاكم وعدم مبايعة حاكمين في زمن واحد هي من المسائل العظام التي اختلف فيها الأئمة النظار من الأصوليين والفقهاء المنظرين، فقد رسخ الإمام الجويني أنه يوجد سبب مانع من الاتحاد تحت راية حاكم واحد ومن أهم هذه الأسباب (اتساع الخطة، وانسحاب الإسلام على أقطار متباينة، وجزائر في الحج متقاذفة، وقد يقع قوم من الناس نبذة من الدنيا لا ينتهي إليهم نظر الإمام، وقد يتولج خط من ديار الكفر بين خطة الإسلام، وينقطع بسبب ذلك نظر الإمام عن الذين وراءه من المسلمين...) قال: (فإذا اتفق ما ذكرناه فقد صار صائرون عند ذلك إلى تجويز نصب إمام في القطر الذي لا يبلغه أثر نظر الإمام).
لذا فإن الطلب من الأتباع والمريدين ممن انتمى ويُريد أن ينتمي للفكر المتطرف الجهادي التكفيري كي يبايعوا الخليفة المزعوم هو تكليف بما لا يُطاق وإلزام بما لا يُستطاع، قد قرر جميع الأصوليين والفقهاء أنه لا يجوز تكليف المرء والإنسان بما لا يُطاق، وأن عبارة هو تكليف بما لا يُطاق هي عبارة تعليلية لدى جميع الفقهاء والأصوليين والفلاسفة والمناطقة عندما يجدون أن المطلوب تنفيذه والمأمور التكليف به أنه فوق طاقة البشر، وأن الإنسان لا يمكن أن يأتي بهذا الفعل المأمور به فإنهم ينصون ويستدلون بهذه العبارة بأن التكليف بما لا يستطاع لا يمكن الإتيان به وأنه لا يجوز القيام به، وهذه حقيقة تنسف فكرة الخلافة المزعومة لدى داعش، ولو أن أولئك الأغرار الستة الذين غدروا بقريبهم ابن خالتهم علموا أنه لا يمكن تطبيق تلك الفكرة المزعومة (الخلافة)، وأنها مسألة قد قرر الفقهاء والأصوليون أنها تكليف بما لا يطاق لربما عادوا من ضلالهم، (فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب، فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس، فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها).