لست هنا واعظا، لكنني مؤيد للجميع أن يقولوا ما يشاؤون لكن في حدود أخلاقنا وأعرافنا التي حثنا عليها ديننا، والتي ربتنا عليها أعرافنا وقيمنا الاجتماعية السعودية

ارتفع سقف حرية التعبير عندنا وصار المواطن يقول كل ما يختلج في صدره، وكل ما كان يضيق به حرجا صار يقوله في العلن وهو آمن لا يخشى بطش مسؤول أو ملاحقة أمنية، وهذا -ولله الحمد- تطور محمود في حق طبيعي وبديهي للإنسان ليقول ما يشاء، ولكن ذلك يجب أن يكون وفق التحري للمصداقية والدقة في الرأي الصادر محفوفا بكريم الأخلاق وحسن الملافظ، وأن يشخص المشكلة بعيدا عن الشخصنة واعتماد الشتيمة والسباب والمنابزة أو المعايرة بالصفات الخلقية أو ابتسارها من طبيعة العمل.
أخشى أن كوننا مستجدين في استخدام الوسائط الحديثة للتعبير عن آرائنا ودواخلنا فإننا تمادينا في سلبية الاستخدام، خاصة إذا شعر بعض المغردين بأنه يعبر تحت اسم أو لقب أو صفة لا تحمل اسمه الحقيقي على النحو الذي يدفع سفينة الحوار إلى التجافي والميل بعيدا عن الاحترام والتمادي في حق التعبير إلى الحد الذي يؤذي الطرف الآخر بالتعدي اللفظي أو التجني في المعلومة، ومسايرة التيار الشعبي العام في موجة الانتقاد والتجني، أو أن يسعى بعض المغردين ممن يتبعهم مئات الألوف إلى التكسب والبحث عن الجماهيرية والشعبية والاتكاء على أن الجمهور عايز كده، بما لا يصل بالحوار المستهدف إلى منطقه الطبيعي، وهذا هو ما حدث ويحدث أخيرا مع كثير من التحولات التي يعلن عنها بعض الوزراء فيتعجل الناس في ردات فعلهم وقد يكون مع كثير منهم الحق، لكن المأخذ هو في اللغة المستخدمة للتعبير وهي في معظمها لغة هابطة لا تليق بالمتحاورين ولا تفضي إلا إلى زيادة الاحتقان لدى العامة وقطع الطريق منذ البداية على أن يكون هناك مجال للتوضيح والتفاهم.
مثلاً في تسعيرة المياه الجديدة التي لم يحسن المشرع بداية تقديمها للناس قبل تطبيقها ليمكن إقناع قدر من الناس حتى يكونوا منحازين إلى جانب التعرفة الجديدة من منطلق أن الماء عندنا هو الأندر والأقل مصادر والأكثر شحّا في العالم، وبالمقابل فإننا ما زلنا نتوسع في التنمية بما يعني زيادة متوقعة في الاستهلاك مع ثبات الكمية من المياه المتوافرة، ومع كل هذه المخاوف إلا أن قيمة الماء عندنا هي الأرخص في العالم، وأن تحليتها هي الأعلى في العالم، لكن هذا كله لم يتم إيصاله إلى الناس ليدركوا أهمية الأمن المائي، وما نعانيه من خطر قادم وإشعار الناس بمقارنات أرقامنا المرتفعة استهلاكيا مع أرقام الاستهلاك والكلفة في دول الأنهار، وأنها تفضح حجة كل ساخط ومتذمر كما يجب وهم الذين تعودوا على مجانية الفاتورة مع إسراف واضح في الاستهلاك وتراكم في الفواتير التي لم تسدد لعدة أشهر، ثم تبع ذلك ارتفاع في الفاتورة تبرره كل المخاطر التي ذكرتها من ندرة وشح المصادر، ومن هنا ضج الناس وتذمروا.
لكن مأخذي هو أن معظمهم قد أسرفوا في البكاء واللطم وما اقتضاه ذلك عندهم من لوم لوزير المياه وصل في معظمه إلى الشتم والمعايرة وقلة أدب في الحوار مع من هو مواطن ومسلم بعيدا عن كونه وزيرا فإن مقتضيات الحوار والجدال كان الأوجب أن تقوم على الإقناع والأخذ والرد والحسنى في الكلام.
لقد دخل معظم الكتاب والمعبرين موجة التشكي والرفض لكن ضمن قاموس لفظي متدنٍّ في مفرداته ومقاصده ولمزاته وإشاراته.
وقد لفت نظري في هذه المعمعة الكلامية خطبة في أحد الجوامع وصلني رابطها للشيخ محمد بن علي الرشيد إمام جامع الوابل في رياض الخبراء بالقصيم، فصار كمن أوقد شمعة من نصح وإرشاد وأدب في ظل ظلام الانفعال والتجني والشتيمة السائدة هذه الأيام، وهذا ما يجعلني أسأل عن الدور الغائب لخطبة الجمعة في معالجة هموم الناس، وما يمثله هذا المنبر من دور ناصح وتوعوي مهم لكنه -فيما أعلم- غاب إلا من قلة قليلة إحداها الخطبة الرصينة الواعية للشيخ الرشيد.
لست هنا واعظا، لكنني مؤيد للجميع أن يقولوا ما يشاؤون لكن في حدود أخلاقنا وأعرافنا التي حثنا عليها ديننا، والتي ربتنا عليها أعرافنا وقيمنا الاجتماعية السعودية.