كل السوريين يعتبرون داعش عدواً لهم، وغالبية السوريين يعتبرون النظام عدواً لهم، وفي حالة كحالة النظام وداعش لا يصح أي نوع من أنواع المقارنة والمفاضلة بين شدة الإجرام والبطش والإرهاب
تحرير مدينة تدمر الأثرية من داعش على يد النظام السوري، حدث فتح الكثير من النقاشات، وأثار الكثير من الجدل في الأوساط الإعلامية والسياسية، وفي أوساط المعارضين السوريين، وعلى صفحاتهم على مواقع التواصل، وسبب هذه النقاشات هو سؤال قديم قدم الصراعات البشرية: هل عدو عدوي هو صديقي فعلاً؟ وهل صديق عدوي هو عدوي دائماً؟
فمعظم الآراء وقعت في إشكال عقلي، هل نفرح لتحرير تدمر من إرهاب داعش؟ أم نحزن لتحقيق النظام السوري نصراً عسكرياً في معركة تدمر سيوظفه سياسياً للحد الأقصى، وسيتمكن بسببه من تحقيق اختراقات سنأتي على ذكرها؟ هل نفرح ثم نقول: ولكن...؟ يمكن ذلك؛ لكن عبارتنا ستكون مليئة بأكثر من لكن، وهذا أمر لا يصح لغوياً على الأقل.
كل السوريين يعتبرون داعش عدواً لهم، وغالبية السوريين يعتبرون النظام عدواً لهم، وفي حالة كحالة النظام وداعش لا يصح أي نوع من أنواع المقارنة والمفاضلة بين شدة الإجرام والبطش والإرهاب، لذلك لا يمكن لأي شخص أن يقيم موازنة بين الطرفين ويميل لأحدهما؛ دون أن يكون في ذلك شكّ بأخلاقه أو بوطنيته.
في هذه المعركة هناك سؤال جدير بالطرح، لماذا أهدى بوتين هذا النصر للنظام ولم يحققه بنفسه وقد كان بإمكانه ذلك؟ لماذا أعلن سحب قواته قبل أيام من قطف النصر؟ لماذا كانت مشاركة طائراته وقواته خلفية وداعمة، وتعمد إعطاء هذا الانطباع؟ الأيام القادمة ستكشف الهدف من كل ذلك، وربما يكون الاستثمار السياسي المخطط هو ذاك الهدف، وقد بدأ الاستثمار الروسي بمحاولة استصدار بيان أو قرار من مجلس الأمن يشيد بتحرير النظام السوري لمدينة تدمر، وهو لم ينجح حتى الآن، ولكنه بالتأكيد سيستمر بالمحاولة، وسيجرب طرقاً أخرى لإعادة تصدير حليفه بشار الأسد كمحارب للإرهاب، وهو أمر إن لم ينجح في دوائر القرار المعنية فهو قد ينجح لدى الرأي العام الغربي، وقد بدأنا بالفعل نسمع آراء من هذا النوع في الصحافة الغربية، وبدأ البعض يقولون: ربما لا يكون نظام الأسد سيئاً لهذا الحد.
الموقف الأميركي كان لافتاً في دقته ومسحة السخرية التي حملها، وقد اكتفت الإدارة الأميركية بأن صرحت على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية بأن تحرير تدمر أمر جيد، ثم أضافت بأن بشار الأسد هو أصل المشكلة، وأنه من جلب الإرهاب وساعد في نموه، حتى الآن يبدو المشهد هكذا، لكن قد يحاول الروس استثمار النصر مستغلين الرمزية التي تملكها مدينة تدمر الأثرية، وقد اتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً بأمين عام اليونسكو، ليطلعها على تفاصيل المعركة ووضع المدينة الأثرية، ويعرض تعاون روسيا في ترميم الدمار الذي لحق بآثار هذه المدينة العريقة.
وفي اليوم التالي لاتصاله الاستعراضي ذاك، أعلنت إدارة متحف الأرميتاج استعدادها لتقديم خبرتها في مجال ترميم الآثار لمساعدة الحكومة السورية والمنظمة الدولية المعنية بالثقافة والفنون في إعادة الحياة لتلك المدينة العريقة.
وبالعودة إلى سؤالنا الإشكالي الأول، هل نفرح؟ هل نحزن؟ هل نتجاهل؟ لا يمكننا أن نفعل أي واحد من هذه الخيارات الثلاثة منفردة، ولا يمكننا أن نركب مجموعة من (اللاكنات)، وأحاول صوغ الموقف السليم في هذه الحالة عبر تشبيه بسيط يمكن أن نستخدمه لمقاربة هذا الحدث.
تحتاج شيئاً ما، يجلبه لك شخص ما، قد يكون هذا الشخص عزيزاً عليك فتفرح به أكثر مما تفرح بالشيء الذي تريد، تتمسك به وتدعوه بشدة وتنشغل به عن الشيء الذي يحمله، وقد يكون موقفك من هذا الشخص محايدا أو لا تعرفه مسبقا، عندها ستأخذ منه الشيء وتحاول أن تكون لطيفاً وتشكره وتدعوه بشكل لبق لشرب فنجان قهوة أو كأس ماء، والاحتمال الثالث أنك تكره هذا الشخص بشدة، ولن يفرحك حتى لو جلب لك إكسير الحياة، في هذه الحال ستكلمه بشكل مقتضب، وقد تكلمه من وراء الباب دون أن تفتحه، قد تخرج منك كلمة شكر بطريقة عسيرة، وقد لا تخرج.
هذا ما يحصل في حياتنا اليومية، وهذا ما حصل في معركة تدمر، لا يمكن أن تخرج منا كلمة شكر، ولكننا نحتاج تدمر بشدة ونحتاج أن نطرد داعش من كل شبر من سورية، لذلك يمكنني أن أختصر وأقول: ضعها عند الباب واذهب، سنأخذها فيما بعد.