قد لا أستطيع أن أغير أو حتى أقترب من فهم الكثير عن طالباتي وما يحدث في حياتهن خارج حدود قاعة محاضراتي، لكن الذي أؤمن به وبكل ذرة من كياني أنني يجب أن أمنحهن كل الفرص الممكنة وأقدم لهن الدعم من أجل أن يصلن إلى أعلى مستوى من قدراتهن... يجب أن أظل أحاول رغم التحديات التي قد تقف بيني وبين خلق البيئة التي تمكنني من تحقيق ذلك. أي تحديات أعني؟ الخبرات السلبية التي قد يكونن قد مررن بها خلال دراستهن في التعليم العام، والثقافة العامة التي تكاد تكون مفقودة لابتعادهن عن القراءة الحرة، بالتالي تسببت بالنسب المتدنية لمخزون المفردات اللغوية لديهن! والفارق الكبير بين المبادئ والتطبيق؛ يعرفن ما هي كعبارات أو كشعارات ولكن خبرة التطبيق تكاد تكون مفقودة! أحيانا أتساءل: كيف يمكن أن أبدأ الآن ما كان يجب أن يبدأ بفترات مبكرة من حياتهن الدراسية؟ أريد أن أعُلم أريد أن أحُدث ذاك التغيير... لكن كيف... كيف؟! هذا هو جوهر التحدي! أستمر بالسؤال لأستمر بالبحث، فإن أردت أن أعُلم يجب أن أستمر بالتعلم. أتعامل مع كائنات حية، مع أرواح مرت بخبرات كثيرة، منها السعيدة ومنها المفيدة، ولكن دائما هنالك نسبة لا بأس بها مررن بخبرات سلبية وهن من يشكلن التحدي الذي يحتم عليّ مواجهته! لو أنهن فقط يتواصلن مع دواخلهن لاستخراج الدروس والعبر بدلا من دفنها بعيدا في الذاكرة لدرجة أنها تؤثر على السلوكيات والاتجاهات الإيجابية نحو العلم والتعلم، فهنالك من تعيش رعب أن تلاحظ زميلاتها جرحا يدمي قلبها، تجدها سارحة في عالم يسكنها... يطعنها بطعنات تصل إلى الروح وأصعب جرح، جرح الروح؛ تنزف فراغا تسكبه عيناها لكن للأسف من حولها لا يرين ولا يشعرن! وهنالك من تفكر بفلذة كبدها التي حرمت منها فتحتضن كتابها كوليد تريد أن تبقيه قريبا من قلبها؛ اليائس من لقاء قرين نبضه! ومن تفكر كيف ستحضر كل غد وهي تحت رحمة من يعتبرها من مسؤوليات الأمس... توصيلها كرمٌ ومرافقتها تَفضُّل، تريد أن تلتزم وصاحب الفضل هوائي يرى الأفضلية لمزاجه واحتياجاته! وتلك المتمردة التي تريد أن تثبت وجودها من خلال قناع القوة الذي ترتديه ليخفي طفلة تريد أن تصرخ بلا صوتٍ يفضح ضعفها، طفولة تختبئ خلف ضحكات هستيرية تستجدي التحدي... لتواجه لتهرب! وكيف أنقذ من أضاعت طريقها، من لا تعرف ذاتها إلا في مرايا الأعين المتكسرة؛ بكل عين شكل، بكل عين ظل، بكل عين سراب... ترى نفسها كأرض بور؟! بينما كل ما تحتاجه مجرد نقطة ماء من الدعم لتشرق شمسها وتزهر! وتلك التي نذرت نفسها شمعة تذوب من أجل كل من حولها؛ لسبب ما فقدت الأمل في سعادتها فتبحث عنها في قلوب الغير... حياة تريد أن تعيشها في انتظار فجر يسرق من عينيها بقايا أدمعٍ حارقة! منذ أن سقط ذاك الجدار الذي كان بيني وبين العلم والمعرفة، وجدت طريقي... وهن طريقي، من أجلهن بحثت وحاولت، ذقت رحيق النجاح ومرارة الفشل! كم حاولت فتح أبواب مغلقة وقلوب مقفلة وعقول رفضت التحليق! كم حاولت عرض لوحات لمستقبل من المعرفة ينتظر تفاعلا كأرض عذراء متعطشة لماء لتزهر! وكم مددت يدي وأعدتها فارغة أمام الرفض... أمام الخوف... أمام الشك! لكن سأبقي تلك اليد ممدودة؛ قد أصل وقد لا أصل لكن لن أستسلم! سأمسح دمعة، وأقرأ قلبا وأحضن روحا، سأنحت محبة على حائط ذاكرة، سأزرع شمسا في ظلام خوف، سأوُقد علما يُشعل عقلا يُنضج إبداعا! طالباتي وكتبي وأنا سنسير معا... إنهن قدري، فليمسِ الرفض حبا، فليمسِ الخوف قوة، فليمسِ الشك يقينا! مهلا، وعذرا، أخذتني ذاتي معهن فأبحرت في أعماقي لأقرأهن فوجدت أنهن من داخلي يكتبنني، وإذ بي أبتعد عن هدف مقالتي هذه! أختي المعلمة... أخي المعلم؛ أبناؤنا الطلبة أرواح... ليسوا مجرد أسماء، ليسوا مجرد أرقام ودرجات، إنهم قصص وخبرات! قبل أن نفكر في بناء العقل لنقترب ونقرأ الروح، قبل أن نفكر في الحصاد لنتأكد من جودة البذور في أكفنا، وإلا سوف تضيع جهودنا إن نحن نثرنا في أرض ترفضنا، نجهلها وتجهلنا! نريدهم أشجارا باسقة في تربة صالحة؟ لنعلمهم إذن كيف يصنعوا غدهم بأيديهم لا بأيدينا، لنجعل منهم أنهارا تُهدر عطاء في مسارات المستقبل، لنتقبلهم كما هم ولنرفض كل الأعذار التي قد تخرج بها ضمائرنا لترتاح من جهد المحاولة وعبء المسؤولية! لم يُخلَقوا ليعيدوا رسم ماضينا، بل ليبنوا أسس تاريخ قادم، إن تخلينا عنهم اليوم تخلوا عنا غدا! على وقع أبجديتنا سيكتبون، فلنحرص على أن تكون صادقة بليغة. هل نريدهم أحرارا قادرين على اتخاذ قرارات صالحة حكيمة؟ فلنجعل إذن هواءهم نقيا خاليا من البغض والكراهية، ومياههم ثرية بكنوز المعرفة والثقافة، وتحت أقدامهم أرض خصبة؛ بتنوع الفكر... قوية بأدواته وثابتة بمهاراته، ثرية بالعلم، ومعززة بالقدرات المهنية. قد لا نستطيع أن نحميهم من العواصف، لكن على الأقل نساعدهم على إدراك نبل القيادة وسمو المواجهة... وبهذا نطمئن على شعلة المصير حين يصبح القرار وحرية الاختيار بيدهم، فالعالم لم يعد يستوعب ضعفا ولا جهلا ولا سلبية!