بقي الخطاب السلفي مقتصرا على أقاويل ابن تيمية يرددها كما هي، بلا تجديد، ولا إضافة، ولا انفتاح على المدارس الفلسفية المعاصرة، وأضحت عامة كتب الرد على الفرق المخالفة ليست إلا قصا ولصقا لمقولات ابن تيمية
الشائع حين تناول المنهج السلفي في هذه الأوقات أن يتم تقسيمه إلى ثلاثة تيارات، أو ثلاثة اتجاهات:
السلفية العلمية التي تجعل العلم والتعليم والإرشاد وتصحيح العقائد على ضوء (المنهج السلفي) أولى أولوياتها، ويندرج تحتها الاتجاه العلمائي الرسمي.
والسلفية الجهادية وهي في الأصل سلفية حركية أولى أولوياتها الجهاد -بحسب فهمها- ولن أطيل فيها فمبادئها ومبانيها وطريقة فعلها لا تخفى على القارئ.
والسلفية الجامية وهي التي تجعل الطاعة وحفظ الأمن أولويتها الأولى، ويتهمها خصومها بأنها تبالغ في هذا الأمر مبالغة تجعلها تطغى على سائر مفردات المنهج السلفي.
غير أن الخلاف بين تلك الاتجاهات ليس في (أصول المنهج) وإنما الخلاف في جزئيات لا تمسّ الجوهر على التحقيق، كل ما في الأمر أن هناك خلافًا في تنقيح بعض المناطات (أي بعض الأحكام)، وتحقيق بعضها (أي ما يصلح أن ينزل عليه الحكم من الوقائع والحوادث)، أما المنهج وأصوله وكتبه ورموزه فهي لا تتغير ولا تُمَس.
حين يُذكَر الفكر السلفي، أو المنهج السلفي يطرق السمع أول ما يطرقه أهل الحديث، وهو مصطلح شاع في القرن الثاني الهجري -فيما أذكر- لا بالمعنى الاعتقادي بل بالمعنى العام الذي لا يفيد إلا اتجاها عاما يعتني بالروايات والجرح والتعديل والاستناد إلى المرويات في التلقي والاستدلال في مواجهة أهل الرأي.
ثم أضحى بعد ذلك علَما على طائفة من طوائف المسلمين لها منهج معلوم، ومقولات محددة في العقائد، من خالف هذا المنهج وتلك المقولات لا يعد من أهل الحديث بهذا المعنى. لكنها لم تكن مقولات متوسعة في الاستدلال، ولم تؤسس على بنيان عقلي وفلسفي وكلامي تفصيلي.
ثم في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع جمع أحد العلماء (المعروف بأبي بكر الخلّال) تراث الإمام أحمد بن حنبل في كتاب جامع، وأصبح للحنابلة مذهب منتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل، في الأصول والفروع، ومن وافقهم في الأصول يسمّى حنبليا بهذا المعنى وإن لم يأخذ بمذهب أحمد في الفروع.
ثم جاء عصر ابن تيمية رحمه الله؛ فبرز بروزًا عظيمًا، وقام بدور هائل فريد لم يسبقه به أحد من الحنابلة في القديم، ولم يلحق به أحد منهم بعد ذلك، ولو شئت أن أقول إن إمام الحنابلة بلا منازع هو ابن تيمية لما أسرفت ولا تجاوزت الحدّ، لا من حيث سعة الكتابة والتأليف، ولا من جهة مقارعة المخالفين والخصوم، ولا من جهة البنية المعرفية الاستدلالية التي أستطيع أن أزعم أنها عمارة فكرية متكاملة قائمة على أصلَيْ العقل والنقل باتساع وتفصيل، ووسع دائرة نقد الخصوم، وكتب كتبا خالدة مطوّلة في الرد على الأشعرية (الخصوم التقليديين للحنابلة ثم السلفيين)، وعلى الاثني عشرية، والصوفية، والفلاسفة، وكتب كتابا معرفيا فذا في نقد المنطق الصوري (منطق أرسطو) في جانبيه وأساسييه: التصور والتصديق.
وأفاد كثيرا من فلاسفة المسلمين، بل إنه اعتمد على الفلسفة وعلم الكلام في تعضيد مقولات السلف؛ فكأنه يقول للخصوم: من قال لكم إن مذهب السلف لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل؟! هذا ابن رشد يقول كذا وكذا، وهذا أبو البركات البغدادي يقول كذا وكذا، بل عرض على الفلاسفة تناقضاتهم، كما عرض على المتكلمين ما اختلف قولهم فيه. وكان هذا -اتفقنا معه أو اختلفنا- عملا عظيما حقا، وبهذا نستطيع أن نقول إن ابن تيمية قام بدور منقطع النظير في منهج الفكر السلفي، وأضاف إليه بعدا فلسفيا منفتحا على الآخرين ومفيدا منهم -وإن كان في بعض النقاط انفتاحا ذرائعيا-؛ إلا أن دوره وما قام به لا يمكن نكرانه، أو الاستهانة به، بل إنه في بعض أقواله خرج على أقوال السلف، ولا أستطيع القول إنه كان بحق امتدادا لكل ما قاله السلف في أمور العقائد، وفي هذا تفصيلات تحتاج بحثا؛ لكنه خطا بالمنهج السلفي خطوات إلى الأمام، وكان مرحلة مفصلية في سيرورته.
ولم يخلف ابنَ تيمية أحدٌ بعده في هذا النفَس! وبقي الخطاب السلفي مقتصرًا على أقاويل ابن تيمية يرددها كما هي، بلا تجديد، ولا إضافة، ولا انفتاح على المدارس الفلسفية المعاصرة، ولا إفادة منها، وأضحت عامة كتب الرد على الفرق المخالفة ليست إلا قصا ولصقا لمقولات ابن تيمية لا أكثر، ولم يكن هناك أي تجديد فكري البتة. وهذا لا شك جمود، بل هو لا شك ليس اقتداء بابن تيمية، إذ لولا انفتاح ابن تيمية على فلسفات عصره لما كان ابن تيمية هو ابن تيمية، ولا نال تلك المنزلة السامقة في سيرورة الفكر الإسلامي.
غير أن الأمل ينعقد هذه الأيام على بعض الأصوات التي لا تزال في بداية إنشادها، أصوات سلفية الأصول؛ غير أنها تمارس النقد داخل التيار السلفي ذاته، بهدوء حينا، وبغير هدوء حينا آخر، فمن أولئك الشريف الشيخ حاتم العوني، والباحث ياسر المطرفي، وباحثان مصريّان هما أحمد سالم وعمرو بسيوني اللذان كتبا مؤخرا كتابا أسمياه (ما بعد السلفية) لقي معارضة شديدة، وقام الباحث بندر الشويقي بكتابة نقد مطوّل لهما وهو نقد جيد وقوي.
تلك الأصوات -وغيرها- تقوم الآن بدور نقدي مباشر وغير مباشر داخل التيار السلفي نفسه، غير أنها تنتقد في بعض النظرات، ولم تبلغ بعد أن يكون لها نظرية متكاملة، وعمارة فكرية جديدة، تنتمي إلى الأصول السلفية في الجملة، وتفيد من المناهج الحديثة أو تقترح هي منهجا حديثا متكاملا، ولكنها تعيد قراءة الفكر السلفي، وتحرره، وتحاول أن تزيل عنه الشوائب التي التصقت به عبر العصور، شوائب هي على الحقيقة أسيرة سياقاتها وظروفها، وهي -أعني تلك الأصوات- بحاجة إلى خطاب عصري، أعني أنه يعيش داخل العصر، ويضع حلولا للمشكلات التي يقتضيها هذا الزمان. أما أنا فإني متفائل ومستبشر بهذه الحركة النقدية؛ إذ المستفيد الأول منها هو الفكر السلفي نفسه، والسلفيون أنفسهم.
أختم بالقول بأني لست أنا مخترع هذا المصطلح، إنما سمعته من أحد الأصدقاء، وبالتتبع لم أعرف من هو أول من أطلقه، فإذا لم يكن له صاحب فلا بأس أن (أسطو) عليه وأدعيه لنفسي!