كلام روسيا عن الحل السياسي واشتراكها في مبادرات التفاوض ما هما إلا ذرّ للرماد في العيون، وحرف للانتباه عن هدفها الرئيسي، وهو إعادة تصنيع حليفها بشار الأسد، ومساعدته على هزيمة المعارضة

بخفة البهلوان ورشاقته، فاجأ بوتين العالم (نحن على الأقل)، وإذ به بطائراته وسفنه وبوارجه الحربية في وسط سورية وأمام شواطئها، يقصف ويضرب ويفاوض ويأمر وينهى، ثم وبقفزة أخرى، فاجأ العالم مرة ثانية بحركة بهلوانية مثيرة أكثر من سابقتها، وسحب طائراته وبوارجه وسفنه من سورية، وانحنى للجمهور بعبارة: لقد أدينا مهمتنا على أكمل وجه.
ومثل بهلوان قفز بغفلة من الجمهور عن الأرض ليقف على حبل معلق ويستقر هناك، ثم بقفزة أخرى عاد إلى الأرض بعد أن دار دورتين كاملتين في الهواء، مستمتعاً وهو يسمع صرخات الجمهور المنبهر، والذي غلبته الحيرة إن كانت هذه مهارة إنسانية صقلها التدريب، أم أن هناك ما يفوق الطبيعة.
فلاعب الجودو فلاديمير بوتين، والرجل المسكون بإحساس العظمة، وبأنه وريث سلالة القياصرة، ومعيد المجد للأمة الروسية العظمى، لا يمكنه النوم دون أن يشعر بأن العالم كله يتحدث عنه وعن أمجاده، وفيما كان يصنع مجده السوري شعر للحظة بأن ما يفعله دخل في طور المألوف، وبأن العالم يتعامل مع حركته وطلعاته الجوية العشرة آلاف بشيء من الاعتياد، فكان لا بد من حركة تعيد الألق إلى سجل الأمجاد، ولم يكد المحللون والمراقبون والصحف ينتهون من تحليل خطوته الأولى حتى باغتهم بالثانية، ملقياً بهم في بحر التساؤلات والحيرة.
ووسائل الإعلام الروسية (كما نقلت عنها آر تي) كان موضوعها الرئيسي هو عجز العالم عن فهم نوايا بوتين وتوقع خطواته (يا للعظمة)، رئيس دولة عظمى لا يستطيع أحد توقع خطوته المقبلة، ودولة عظمى يرتبط قرارها ودخولها وخروجها من الحروب بقرار رجل غير قابل للتنبؤ.
قيل الكثير والكثير عن الدخول الروسي بشكل مباشر في سورية، وانخراطه في الحرب، وتنوعت المواقف والتحليلات، والتي اتفق أغلبها على أن هذا التدخل هو تعقيد للمسألة السورية، وتمديد للصراع فيها، وأن كلام روسيا عن الحل السياسي واشتراكها في مبادرات التفاوض والحوار ورعايتها ما هما إلا ذرّ للرماد في العيون، وحرف للانتباه عن هدفها الرئيسي، وهو إعادة تصنيع حليفها بشار الأسد، ومساعدته على هزيمة المعارضة. وأنه تحت شعار محاربة داعش والنصرة ضرب كل من قال لا لحكم الأسد، وبغض النظر عن الموقف من هذا التدخل وأهدافه الحقيقية، وبغض النظر عن النتائج العسكرية التي تحققت أو كان يمكن أن تتحقق من هذا التدخل، فالسؤال الذي يطرح نفسه: ما دام قرار التدخل والانسحاب بيد رجل واحد، وهذا الرجل يمتلك مواصفات البهلوان ويصعب التنبؤ بتصرفاته، وما دام القرار اتخذ في المرتين (الدخول والخروج) وتم تنفيذه بسرعة مذهلة لا تتعدى الساعات، فما المانع أن يعاود الكرة، ويتدخل من جديد خلال ساعات أيضاً؟
بوتين نفسه أثناء استقباله الجنود العائدين من سورية قال إن العودة ممكنة إذا استدعت الضرورة ذلك، والضرورة كلمة فضفاضة يملك هو بنفسه حق تفسيرها، فيمكن أن يكون إطلاق نار في إحدى قرى اللاذقية ضرورة ملحة تستدعي العودة، ويمكن أن يكون خرق إحدى الفصائل للهدنة المتفق عليها، أو سقوط قذيفة قادمة من ريف دمشق بعد شارعين من السفارة الروسية أسبابا أيضاً، القاعدتان الجوية والبحرية الروسيتان قائمتان على الأرض السورية وفي مياهها الإقليمية، وهما على أهبة الاستعداد لوصول أي عدد من الطائرات والسفن والمقاتلين حين تستدعي الضرورة ذلك، وهذا تصرف يجب توقعه في كل لحظة ما دمنا نتحدث عن بهلوان، يهمه أكثر ما يهمه أن يسمع شهقات الجمهور وهو يحبس أنفاسه، ويثبت أن العالم يشعر بأهميته.
بوتين خلال تكريمه للجنود العائدين قال إن العملية العسكرية الروسية في سورية هيأت الظروف للعملية السياسية وفتحت الطريق أمام السلام، وبغض النظر عن الأرقام التي تفسر معنى كلمة السلام في خطاب بوتين، والتي تشمل قصف المدنيين والمستشفيات، فإن من حق هذه العملية العسكرية أيضاً أن تجدد نفسها إذا ما رأت أن العملية السياسية لم تسر كما يجب، وأن الطريق إلى السلام قد تم سده، وهذا أيضاً يخضع لتفسير الرجل الذي لا يمكن معرفة خطوته التالية.
قديماً قالوا إن السياسي كراكب الدراجة سيسقط عندما يتوقف عن الحركة، وبوتين يفهم هذه المقولة أكثر من اللازم، ويقوم بحركاته بطريقة تهدد بسقوطه وسقوط من يركبون خلفه على الدراجة.