إذا ما أردنا أن نكون منطقيين، فإنه يفترض بنا أن نبحث عن مواضع أكثر إشراقاً، وهذا البحث يعتمد على غاية مهمة وهي: إصلاح الخلل من خلال إعادة قراءة التراث ونقده نقداً منطقياً

مفهوم التنمية لا يعني الاهتمام فقط بالبنية التحية والخدمات اللازمة للإنسان في بلد ما، بل يتعدى هذا الحد إلى تنمية الإنسان ليكون حراً فاعلاً قادراً على بناء مستقبل مثمر. ونحن في المملكة إذا ما كنا قد عانينا ثقل وطأة الإرهاب، خلال السنوات الماضية، فإن كل تلك الأفعال التدميرية، التي حاول أصحابها تدمير البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، إنما هي نتيجة لفكر متطرف عميق الجذور، لن تتم معالجته إلا بفهم تام لطبيعة تركيبته وتكوينه أولاً.
ومعضلـة الشعـوب الإسلامية في توظيف الدين -سياسياً واجتماعياً- بهدف السيطرة على المجتمع، حتى طغى (الفكر الديني) على الدين نفسه، فابتعد الأفراد عن جوهر العلاقة بين الإنسان والله من جهة، وجوهر العلاقة بين الإنسان والحياة من جهة أخرى.
وقد أثبتت أحداث السنوات القليلة الماضية أن التطرف الديني بات يقف فعلياً ضد مشاريع التنمية في المملكة، أي بدأ يحارِب توجهات الدولة في بناء الإنسان ويقف ضدها علناً، مستفيداً من تأثر المجتمع بالخطاب الديني، ولذلك نجد أن هناك قوة شكلتها سلطة الزعامات الدينية أثّرت في تحريك الرأي العام وتوجيهه نحو ما تريد، باعتبار أن الخطاب الديني المشاع هو خطاب مقدس، بينما الحقيقة عكس ذلك.
ومثل هذه الآراء يتم تقديمها على أساس أنها حقيقة مطلقة وثابتة لا تقبل النقاش؛ ولكي تحقق الحقيقة المطلقة، فإن كل ما على الفقيه فعله هو إصدار رأي ما، وفوراً يتم التعامل معه على أنه فتوى دينية؛ مما يدفع كثيرا من الشباب المتحمسين إلى تبني هذه الآراء فيعادون مجتمعهم ووطنهم. وبما أنّ لدينا تيارا دينيا عريضا، تشكّل بفعل توجهات ماضوية تحارب التطور معنوياً وتستفيد منه مادياً، أصبح لدينا تمظهرات غريبة للدين تقوم على التشنج في التعامل مع الكون والإنسان على حد سواء، وذلك بفرض شكل معين للتدين، لتصبح المعادلة الواقعية لهذا الفكر، أنه لكي يكون الإنسان متديناً يجب أن يكون متطرفاً، وبالتالي تكون المحصلة النهائية: أنت متدين فأنت إذن متطرف! ولنا أن نتذكر أن جلّ مشروعات الدولة، في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي، التي تم الإعلان عنها، سبق للتيار الديني المتشدد أن أعلن الوقوف ضدها بكل صراحة، معتبراً أنها ضد الدين.. وبالتالي تكون الفكرة التي يراد إيصالها-ضمنياً- هي أن توجهات الدولة ضد الدين!
ومن بداهة القول إن الدين الإسلامي هو المكون الرئيس لثقافات الشعوب الإسلامية، وأن الشعوب الإسلامية تعتز بانتمائها للإسلام كهوية لا يمكن التنازل عنها، ولكن في الوقت ذاته هناك فهم خاطئ للدين يتبناه كثير من الأفراد المتشددون، دون أن يدركوا أنهم ضحية الأيديولوجيا، إذ لا يستلهمون تطرفهم ومبادئهم من الدين بل من التراث المتراكم الذي شاع نتيجة تبنيه أكثر من الدين نفسه، من قبل كثير من الزعماء الدينيين، الذين ربما يزيدون عليه ما لديهم من عادات وتقاليد اجتماعية تصبغ بصبغة الدين، ليتم إحكام السيطرة على المجتمع، ولا سيما أن التراث الإسلامي فيه الكثير من الأفكار والآراء الاجتهادية المتشددة التي أُنتجت في زمن معين، بكل ما فيه من اختلاف وتغيرات وتحولات ومآرب سياسية واجتماعية.
ونحن إذا ما أردنا أن نكون منطقيين، فإنه يفترض بنا أن نبحث عن مواضع أكثر إشراقاً، وهذا البحث يعتمد على غاية مهمة وهي: إصلاح الخلل من خلال إعادة قراءة التراث ونقده نقداً منطقياً، بإيضاح السلبيات التي تنمّي وازع التطرف الديني في المجتمع؛ بهدف توضيح تهافتها ثم تفاديها، ومن جانب آخر إيضاح المواقف المشرقة والحضارية والإنسانية في التراث للاستفادة منها، مثلما استفادت منها البشرية سابقاً، يوم كانت الحضارة الإسلامية مورداً بشرياً مهماً في اللغة والأدب والفلسفة والعلوم الطبيعية والإنسانية، فالتراث الإسلامي فيه كثير من المبادئ والأفكار الإنسانية المشرقة لكنها غائرة في العمق وبالكاد تكون ظاهرة؛ نتيجة تراكم الأفكار المتطرفة وتبنيها على أرض الواقع.
أما بالنسبة لتاريخنا السعودي، فإن المتطرفين دشنوا وقوفهم ضد مشاريع التنمية السعودية في أوائل عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، ولا يزال التاريخ يعيد نفسه، حيث استمر إنتاج التشدد حتى يومنا هذا، فالمنتمون للتيار الديني المتشدد لا يألون جهداً في إعاقة التنمية؛ وهم في الوقت نفسه يقفون ضد فكرة نقد التراث؛ لعلمهم المسبق بأن النقد سوف يخلخل الأرضية الهشة التي بنوا عليها خطابهم المتشدد، ولذلك لن تأخذ مشروعات التنمية في بلادنا مداها وحيزها ما لم يكن هناك مشروع للتنوير يقوم على النقد كأساس، كما أن الإصلاح لن يتم طالما هناك تحفظ على الرؤى والطروحات العقلانية.
ولذا أستطيع القول إن تحقق غايات المستقبل ليس مرهوناً بوجود الرؤى المختلفة، بل هو مرهون بضرورة تقبّلها مهما اختلفت، انطلاقاً من مبدأ التعدد المثري القائم على أن هناك رأيا.. وهناك رأيا آخر أيضاً.