قبل 5 سنوات، اندلع ما عرف بالربيع العربي، وكانت بداية الحركة الاحتجاجية في تونس، لتلحقها مصر ثم ليبيا، وليتوالى التحاق بلاد عربية بها. والهدف كما أعلن عنه، إسقاط أنظمة الفساد والاستبداد التي تسببت في كل النكبات، من تخلف وجوع وبطالة، وترد اقتصادي.
وقد أطلق الشباب اليافعون الذي تجمعوا في الميادين على تحركاتهم ثورات الحرية والكرامة.
بعد 5 سنوات على هذا الإعصار، تغير المشهد رأسا على عقب. فالآمال الكبيرة التي عقدت على تلك الانتفاضات تبخرت، والأوضاع الاقتصادية في البلاد التي طالتها الحركة الاحتجاجية ازدادت سوءا، ومعدلات البطالة تضاعفت، والقيمة النقدية لعملاتها تراجعت بشكل مخيف. والحلم في الحرية والانعتاق لم يعودا ذا شأن بالنسبة لشباب يلاحقون لقمة العيش.
تحول الحديث عن الربيع العربي، من النقيض إلى النقيض. من حلم جميل في التغيير، وبناء الأوطان بما يتسق مع العصر الكوني الذي تعيش فيه، إلى صراعات وحروب وتفتيت أوطان وكيانات، ومصرع لعشرات الألوف من البشر.
وفي خضم اليأس والعجز، تغير المشهد والتعبير عنه. تحولت الحركة الاحتجاجية من ثورة للحرية والكرامة، إلى مؤامرة خارجية، تستهدف الأمة. وبالمثل، تحول قادتها من قديسين، إلى متآمرين يتلقون التوجيهات من الغرب.
وكما كتبت سير ذاتية، في مطالع الحراك، عن قادته، تضعهم في مصاف الأبطال، كتبت سير أخرى، بعد 5 سنوات، من ذلك التاريخ، تصنفهم عملاء ومأجورين. وبين هؤلاء وأولئك، يقف آخرون مذهولين، يبحثون عن يقين، فلا يسعفهم واقع التشظي، والحروب الأهلية، والحرائق التي تحاصرهم من كل مكان.
نحاول في هذه القراءة، وقراءات أخرى قادمة، أن نعيد تفكيك صورة المشهد الدرامي للانفجار الذي شهده الوطن العربي قبل 5 سنوات، ونناقش تداعياته، والعمل على تحليل رموزه وطلاسمه، منطلقين من التسليم، بأن الواقع في الأقطار التي انطلقت منها الحركة الاحتجاجية العربية، قد وصل إلى طريق مسدود، وأنه لم يعد بإمكان أحد إنكار وجود أزمة شرعية وعدالة وتمنية في تلك البلاد. وإلا فما الذي يبرر خروج الملايين إلى الميادين، من كل لون وصوب لأيام طويلة، ومن مختلف التوجهات السياسية والاجتماعية، وتعرضهم لبطش الأجهزة الأمنية لتلك الأنظمة، واستبسالهم في الدفاع عن مطالبهم.
لكن القول بالتدخلات الخارجية، في شؤون تلك البلاد هو أيضا أمر صحيح، وليس بحاجة إلى إثبات. وكانت تسمية الحركة الاحتجاجية بالربيع العربي، هي أولى تلك التدخلات. فتعبير الربيع، استخدم عدة مرات، بالأدبيات الغربية بمدلولات سياسية. استخدم في المجر، عندما برزت حركة إصلاحية، تم سحقها من الجيش السوفيتي بالدبابات. واستخدم مرة أخرى في تشيكوسلوفاكيا، عندما قاد رئيسها دوبتشيك حركة إصلاحية تم سحقها أيضا من الجيش الروسي، في حينه تحدثت الصحف الغربية وأجهزة الإعلام عن ربيع براغ. ومرة أخرى، استخدم مصطلح ربيع أوروبا، إثر سقوط الكتلة الاشتراكية والتحاقها بالغرب، نظاما سياسيا واقتصاديا، وتحالفا عسكريا.
وكان التدخل الغربي واضحا وفاضحا، منذ الأيام الأولى في دعوة الأميركيين للرئيس مبارك بالتنحي عن السلطة، بدلا من تقديم الدعم لحليف تاريخي، ظل وفيا لعلاقته بالغرب قرابة 30 عاما. أما في بقية البلاد العربية، التي طالها التغيير، فقد وصل الأمر في بعض الحالات، حد التدخل العسكري، من قوات الناتو لإسقاط نظام القذافي.
والأمر سيان في الحديث عن مؤامرة، أو تأمين مصالح، فكلاهما تعبيران عن هدف محدد. فلن يكون للمؤامرة من معنى، إن لم تهدف إلى تأمين مصالح. وما حدث في المراحل التي أعقبت اندلاع الحركة الاحتجاجية، من الغرب، لم يكن سرا ولا يحتاج تفسيره إلى كبير عناء. فلا ينسحب عليه، في لحظته تعبير المؤامرة، لأن فعل المؤامرة، هو عمل سري يتم التخطيط له في الظلام، ولم تكن هناك حاجة لذلك.
فالشعب خرج إلى الشارع، مطالبا بالتغيير، وكل ما في الأمر بالنسبة للغرب، هو اقتناص تلك اللحظة، وتوجيه الحركة الاحتجاجية نحو بوصلة تأمين المصالح الغربية في المنطقة، وإعادة صياغة خريطتها السياسية بما يتسق مع الأجندات الغربية التي جرى الحديث عنها منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم، وقد حان أوان قطف الثمار، وتحقيق تلك المشاريع.
لم يخف الغرب نواياه في إعادة النظر بخرائط المنطقة التي صيغت في أعقاب الحرب الكونية الأولى، والتي كانت من نتائجها.
فالحديث تم بالمكشوف من: ترومان وكيسنجر وبريجنسكي وجيمس بيكر وجوزيف بايدن. وفي مشاريع لمعاهد إستراتيجية، كمعهد راند، وفي خرائط رسمت ونشرت في النيويورك تايمز والواشنطون بوست. والحديث لم يتوقف، حتى يومنا هذا، عن حقوق المظلومين، وحق تقرير المصير للطوائف والأعراق وأتباع الديانات.
بل إن الأمر تعدى ذلك، إلى صدور قرارات غير ملزمة من الكونجرس الأميركي تتبنى تقسيم البلاد العربية على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات.
لم يعد هناك من معنى لتأكيد أو نفي وجود تآمر على الأمة العربية، فما شهدناه هو أكثر وضوحا من المؤامرة، إنه فعل فاضح وسط النهار، يتمثل في تفكيك أوطان، وسحق هويات، وتدمير بنى تحتية، وإعادة منطقتنا إلى ما هو أبعد زمنيا من العصر الوسيط.
نعم، نحن نتحمل كثيرا، من تبعات ما لحق بنا، لأننا لم نوفر شرعية حكم، أو عدالة، ولأننا استسهلنا أمورا كثيرة. غاب الوعي عن أهمية بناء الأوطان، والدخول في تنمية حقيقية، وانشغلنا في حروب داحس والغبراء، بدلا عن توفير الحد الأدنى من مخرجات التكامل الاقتصادي العربي. فكان أن دفعنا ثمن ذلك أكلافا باهظة من ثرواتنا ودمائنا. ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.