العقبة الكبرى أمام الحفاظ على البيئة هو أنها تستلزم القيام بتضحيات اقتصادية كبيرة قد لا تكون أغلب الدول قادرة على تقديمها

بعد قرابة شهر من الآن يكون قد مرّ عامٌ كامل على مؤتمر البيئة الذي عقد في كوبنهاغن عاصمة الدنمارك ديسمبر الماضي. عوّل المهتمون بشؤون البيئة من الدول والأفراد الكثير على هذه المؤتمر آملين أن يسفر عن اتفاقية بديلة لاتفاقية كيوتو التي توشك على الانتهاء عام 2012 إلا أن ظنونهم خابت إلى حد ما، وذلك عندما لم يتمكن رؤساء الدول المجتمعة من توقيع اتفاقية ملزمة للجميع لخفض انبعاثات الكربون والحد من النشاطات التجارية والصناعية الضارة بالبيئة. ولكن الكثيرين في المقابل ما زالوا يرون أن المؤتمر لا يستحق أن يوصم بالفشل الذريع كونه تمكن من إحراز تقدم ما وإن لم يكن في مستوى التوقعات. صحيحٌ أنه لم يسفر عن توقيع الاتفاقية المقترحة من كافة الدول المشاركة، ولكن هذا لا يعني أن هذه الدول تخلّت عن دورها البيئي المنوط بها تماماً.
اتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه الحفاظ على البيئة هو ممارسة مستمرة في أغلب الدول المتقدمة، ولكن الالتزام بذلك أمام القانون الدوليّ هو أمر لا تحبذه أغلب هذه الحكومات ما لم تكن واثقة تماماً من قدرتها على الالتزام ببنود هذه الاتفاقية أو كانت من الدول المتضررة بشكل مباشر من التغير المناخي. كل دولة تسعى لتنفيذ برنامجها البيئي الخاص حسب احتياجاتها البيئية وقوامها الاقتصادي، وذلك بتبني المجال الذي يناسبها من مجالات الحفاظ على البيئة. هذه الانتقائية البراغماتية هي ما يجعل الحكومات تتردد في الالتزام باتفاقية دولية لا تأخذ في الاعتبار الفروقات الاقتصادية بين الدول الموقعة، وتقرر في المقابل أن ترسم أجندتها البيئية على حدة.
السعودية مثلاً كدولة نفطية لا تتحمس كثيراً لفكرة إلغاء الوقود الأحفوري ولكنها تدعو في المقابل لتطوير تكنولوجيا التخلص من انبعاثاته الكربونية بطريقة آمنة. البرازيل التي تعتمد كثيراً على تجارة الأخشاب لا ترحب بالتدخلات الدولية في ثروتها الأمازونية، ولكنها تدفع في المقابل باتجاه استخدام الوقود الحيوي الذي تنتجه بوفرة. ولكن الوقود الحيوي ليس مرحباً به في الهند التي تميل إلى استغلال الأراضي الزراعية لإطعام الشعب بدلاً من إطعام السيارات، ولذلك فإن نشاطها البيئي يأخذ منحى آخر مثل تطوير السيارات الصغيرة التي تقلل من التلوث. هكذا تسعى كل دولة لصياغة مشروعها البيئي بشكل براغماتي حسب مرونة الاقتصاد وحاجة البلاد.
أمريكا، الملوّث الأكبر في العالم، امتنعت عن توقيع اتفاقية كيوتو تحرزاً من وضع أي قيود اقتصادية على آلتها التنموية الضخمة. ورغم هذا الامتناع الفيدرالي، التزمت الكثير من الولايات بشكل مستقل بمعايير كيوتو وقرروا تطبيقها على مستوى حكومة الولاية بغض النظر عن موقف الحكومة الفيدرالية. الصين التي كانت تضع البيئة في آخر قائمة اهتماماتها وهي تغرق العالم بمنتجاتها وكربونها معاً أفاقت أخيراً من نشوة النمو الاقتصادي المذهل وبدأت تفكر في الآثار المدمرة التي خلفتها آلتها الصناعية على شعبها وأرضها. من أجل هذا وقف العالم بأسره في كوبنهاغن في انتظار أن يعقد الطرفان الملوثّان اتفاقية يتنفس العالم بعدها هواءً نقياً، ولكن هذا لم يحدث، واكتفى الطرفان بمشاركة دول أخرى على تقديم دعم ماليّ للدول النامية لدعم جهود الحفاظ على البيئة فيها.
العقبة الكبرى أمام الحفاظ على البيئة هو أنها تستلزم القيام بتضحيات اقتصادية كبيرة قد لا تكون أغلب الدول قادرة على تقديمها. البرازيل التي تحوي بين جنبيها رئة العالم، متمثلة في غابات الأمازون الشاسعة، لا تستطيع أن تستجيب بسهولة إلى مناشدات العالم بالحفاظ على هذه الرئة بينما الملايين من أبناء شعبها يعتمدون في قوام معيشتهم على قطع الأشجار وتصديرها. ولهذا صرّح الرئيس البرازيلي في مؤتمر كوبنهاغن بأنه لن يسمح لسكان الأمازون بأن يموتوا جوعاً تحت أشجارها. كذلك صرّح الصينيون من قبل بأنهم لن يسمحوا للضغوطات البيئية بمنعها من اللحاق بالاقتصادات الكبرى. والتصريح نفسه يجري على ألسنة العديد من الدول التي يعوّل على ثرواتها من الغابات والمياه والنفط كلما ازدادت الانتقادات الموجهة ضدهم حدة.
في الجهة الأخرى، ثمة دول تملك مرونة كافية للموازنة بين الاقتصاد والبيئة، إما لأن اقتصادها لا يرتبط بشكل مباشر بأحد مهددات البيئة الكبرى، أو لأنها طوّرت حلولاً اقتصادية وتقنية أكسبتها هذه المرونة تدريجياً. الدول الاسكندنافية مثلاً قطعت مشواراً طويلاً في الشأن البيئي حتى أن أغلب بنود الاتفاقية تكاد تنطبق عليها قبل توقيعها، وقد قامت بأغلب الإجراءات الاقتصادية ورسمت خطط التنمية المستقبلية وهي تضع الشأن البيئي في الحسبان، ثم حصلت على الإجماع الشعبي، فلم يبق إلا أن توقّع الاتفاقية وتراقب بقية دول العالم وهي تكافح لتطبيق بنودها الصعبة. ولكن هذه الدول الثلاث الصغيرة لم تكتف بما فعلته محلياً على مستواها الجغرافي البسيط، بل قررت أن تشجع بقية دول العالم على اللحاق بها. فبالإضافة إلى استضافة الدنمارك لهذا المؤتمر الذي حضره أكثر من مئة رئيس دولة، فقد تعهدت النرويج بتقديم مبلغ مليار دولار كهبة مجانية لكل دولة نامية تثبت بذلها لجهد ملموس في الحفاظ على الغابات، بينما تقوم سفارات السويد في أنحاء العالم بتقديم ندوات مجانية تعرض فيها تجربتها المبتكرة في التنمية المستدامة التي من ضمنها خطتها الطموحة لأن تكون دولة خالية من الوقود الأحفوري تماماً بحلول عام 2030. يسجّل العالم هذه المواقف البيئية للدول الاسكندنافية بطريقتين: الأولى، أنها مواقف سخية وتستحق الاحترام والتعميم. والثانية، أنها مواقف مترفة صدرت من دول غنية أنجزت كل شيء.. ولم يبق إلا البيئة!