إن من القواعد المقررة في القضاء المقارن الإداري أنه قضاء منشئ للقواعد النظامية القانونية، لأن أصل بداية هذا القضاء كان في إعادة التوازن بين الدولة والأفراد فيما يقع بينهما من قضايا ونزاعات، وذلك أن القضاء العام عندما ينظر لتلك النزاعات بين سلطات الدولة وبين الأفراد ويُنزل القواعد العامة التي يفصل بها بين الأفراد في النزاعات المسماة لاحقاً (المنازعات الإدارية) والتي تكون الدولة عادةً طرفاً فيها، فإنه سوف يقع خلل في نتائج الأحكام، وذلك لأن الدولة تتمتع بسلطات لا يتمتع بها الأفراد، لذا فقد اجتهد قضاة القضاء الإداري المقارن في إنشاء القواعد الحاكمة للنزاعات بين سلطات الدولة وبين الأفراد، وذلك في العقود التي تقع بين الطرفين والقرارات الصادرة من سلطات الدولة التي أنشأ لها القضاء الإداري المقارن طرق الطعن فيها، فأصبح هذا القضاء الإداري المقارن نبراساً لتحقيق العدالة والإنصاف وحامي الشرعية والمشروعية التي أسسها، وهي إعادة الاعتبار لاحترام الجميع سواءً السلطات أو الأفراد وإحكام الأنظمة واللوائح، وذلك حتى يسود التوازن في مفاصل المجتمع، ومن ذلك القضاء المقارن الإداري استقى القضاء الإداري السعودي المبادئ الإدارية العامة التي تحكم نشاط الإدارة وتصرفاتها، وقد حقق القضاء الإداري السعودي نجاحات باهرة في ضبط نشاط الإدارة من وقوعها في استعمال سلطتها بتعسف وتعد وتفريط في تجاوز الأنظمة واللوائح، وأقام الحدود والفواصل لاعتبار قرارات الإدارة مشروعةً وصحيحة، وأسبغ سلطته لحماية تلك القرارات من العيوب التي قد تصم قرارات السلطات الإدارية، فقد وازن القضاء الإداري السعودي بين مصالح الأفراد الخاصة ومصالح السلطات الإدارية العامة، وتحقيق هذه الموازنة وضبطها من الوقوع في الزلل لهي عملية تتسم بالخطورة والصعوبة إلا أن بما يتسم به القضاء الإداري من سعة ومرونة في خلق وإنشاء القواعد الضابطة لتصرفات الإدارة والأفراد جعله قادراً على تحقيق تلك الموازنة.
وتأسيساً على ما حققه القضاء الإداري السعودي من نجاحات في تنزيل قواعد وضوابط الشريعة الإسلامية على التعاملات والتصرفات الإدارية ومزجها بما يصدر من أنظمة (قوانين) ولوائح، فإن القضاء العام السعودي يتطلب منا كل عون في إظهار قوته ومتانته التي تأسس عليها من خلال المصادر الفقهية التي يزخر بها تراثنا الإسلامي، ولقد جعل الفقهاء الروح العلمية منبثقة في الفقه الإسلامي الذي جعل روح الاجتهاد المحرك الحقيقي لكثير من فقهاء العصر أن يجتهدوا ويقرروا أنه لزاماً أن يكون للمحاكم مدونات ملزمة يحكمون بها في النزاعات التي تُعرض أمامهم وذلك حسماً لمادة تعارض الأحكام واختلافها مما يُصيب العامة بالذهول والاستغراب والتنكب للأحكام الإسلامية، فلا شك أن باب التشريع فيما لم يرد به نص هو باب الفقه الكبير والواسع، وذلك لأن الشريعة قد أرست قواعد ومبادئ عامة تُمكن المجتهدين الرسميين وأصحاب التشريع الملزم من استقراء روح العصر ممزوجةً بتلك القواعد والمبادئ العامة المستقاة من الشريعة الإسلامية بأن يُنشئوا ويبدعوا مدونةً مدنيةً تكون ملزمة للمحاكم العامة، وذلك على ضوء ما تقرر في كثير من البلاد العربية الإسلامية، لأنه بين الفينة والأخرى تُطالعنا الصحف وشبكات التواصل الاجتماعي بأخبار صدور أحكام قضائية تتخللها مسائل خلافية واجتهادية، ثم يتم الجزم بمنحى من ذينك الاجتهادين في تأسيس حكم قضائي قاطع، وهذا من إشكاليات عدم جعل الأحكام الشرعية مقننة في نصوص ملزمة للكافة سواءً المحاكم أو غيرها من باقي السلطات في مثل هذه المسائل الخلافية، فلو كانت هذه المسائل منظمة (مقننة) بما يتوافق مع روح وأحكام العصر أصبحت تلك المسائل مقبولة وملزمة للقضاء، ولأصبح تنظيم تلك التصرفات يدرأ كثيراً من الحدود والعقوبات التي تصدر بناءً على مسألة اجتهادية لم يُراع فيها الاختيار القضائي روح العصر والمصالح العامة للدولة، إلا أن تعويم الأمور الخلافية وجعلها غير مقننة بحجة الاجتهاد للقاضي أوجدا إشكالات تؤثر على المصلحة العامة وتتناقض مع التحديث والتطوير.