لا يزداد اقتراب العالم الديني من مجتمعه وتقبله من أفراده إلا إن كان مدركا ما يشغلهم، محيطا بما يهمهم، مستوعبا ظروفهم وقضاياهم
سبق لي أن أجريت في وسيلة التواصل الاجتماعي تويتر 5 استطلاعات حتى الآن، كان أولها عن مدى الحاجة إلى سن نظام لمكافحة البطر وكفر النعمة، فأظهرت النتائج أمرا غير مقصود لذاته ابتداءً، مفاده انحسار التدين في المجتمع السعودي عن النسبة المفترضة على الأقل في مثل مجتمعنا المحافظ، وهي 66% إلى 45%.
وفي استطلاع ثان عن سبب هذا الانحسار الكبير طرأ جواب لم يكن في الحسبان أيضا، وهو أن السبب بنسبة 30% من الآراء هو ضعف المؤسسة الدينية، وبنسبة 40% هو طغيان الحياة المادية، لِيُكوِّن الفريقان نسبة 71% تصب في قالب واحد هو: ضعف تأثير المؤسسة الدينية في أفراد المجتمع.
وفي استطلاع ثالث عن سبب ذلك الضعف، كانت النتيجة صاعقة أيضا، وهي أن 44% يحيلون إلى ضعف تصور المؤسسة الدينية للأحداث، و24% يرون أن السبب في ضعفهم هو توهمهم الخاطئ للمصلحة العامة.
وهذا يعني أن نسبة 70% من الآراء ترى أن المؤسسة الدينية فقدت فاعليتها في المجتمع. النتيجة الصادمة دعتني للتحرك بعيدا عن هذا المنزلق.
حاولت الخروج من هذه القضية بالابتعاد عن موضوعها في استطلاع رابع عن: ماهية الوصف المناسب للمفجرين أنفسهم في المساجد والأماكن الحيوية لمقدرات الوطن، فأظهرت النتائج أن 44% يرون أن هؤلاء مرضى نفسيون، ورأى 30% أنهم شياطين قتلة جبارون.
وهذا يعني أن 71% من الآراء متفقة على أن هؤلاء الإرهابيين غير أصحاء ولا أسوياء، فكان لزاما معرفة السبب في استطلاع خامس، فأبت النتيجة إلا أن تربطنا بالاستطلاعات الأولى قهرا، إذ رأى 45% أن السبب في انحراف الإرهابيين هو الشحن الدعوي المسيس، ورأى 25% أن السبب هو ظروف المجتمع المتشدد.
ولأن المؤسسة الدينية الرسمية لا تنتمي إلى التيار الدعوي المسيَّس، فهذا يؤكد ضعفها أمام هذا التيار المؤثر على فئة الشباب.
ولأن المجتمع يعاني من ظروف تشدد مفضية بالشباب إلى الأمراض النفسية المؤدية إلى الشيطنة واستحلال الدماء والفساد في الأرض، فهذا يؤكد ضعف المؤسسة الدينية الرسمية، وعجزها عن تخفيف احتقان المجتمع، وتهذيب تشدده، وتذليل صعوبات التعايش بين فئاته.
ولأن ضبط سلوك الأفراد والجماعات هو الدور الأسمى لعلماء الدين، بحسب فاعليتهم، وقربهم منهم، وبحسب تقبل الناس لطرحهم، فإن نسب استجابة فئات المجتمع ترتفع مع ارتفاع نسبة مشاركة العلماء، واقترابهم من أفراد المجتمع، وتلمسهم حاجاتهم.
ولا يزداد اقتراب العالم الديني من مجتمعه وتقبله من أفراده إلا إن كان مدركا لما يشغلهم، محيطا بما يهمهم، مستوعبا ظروفهم وقضاياهم.
وانحسار التدين في أي مجتمع يعني: ظهور الخلل في آليات التدين الخاص به، سواء: الداعية إليه، أو الحاضنة له، أو الحامية إياه، وكلما زادت نسبة التدني أمكن أن يكون الخلل في الآليات كلها.
إن المؤسسة الدينية في بلادنا تحظى بدعم حكومي كبير وغير مسبوق على المستوى الشخصي لأعضائها، وعلى المستوى المؤسسي لهيئاتها، ومع ذلك تؤكد لنا الاستطلاعات ضعف هذه المؤسسة -أفرادا وهيئات- عن مواجهة تلك المشكلات، وعن مواكبة المستجدات في زمن تتباعد فيه المسافات بأبعاد فلكية يوما بعد يوم.
يشهد لذلك طروء الأفكار الإلحادية على الشباب والكهول من المثقفين في بلادنا، دون أن يجدوا من أنشطة المؤسسة الدينية ملاذا آمنا من سيطرة هذه الأفكار ونخرها لمسلماتهم وثوابتهم الإيمانية.
فكان لزاما الإسراع في معالجة ذلك الضعف، وتقديم ذلك على حد السواء مع مشكلات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والأمنية.
وهذه أبرز محددات المعالجة المطلوبة:
أولا: لزوم مراجعة تكوين المؤسسة الدينية ممثلة في هيئة كبار العلماء والهيئة الدائمة للإفتاء، بتحقيق أمرين:
أ- تجديد دماء الهيئتين كل أربع سنوات؛ باستبدال النصف منهم على الأقل؛ مما يمكِّن من الاستفادة من أكبر قدرٍ من علماء البلاد في شتى المناطق.
ب- تغيير نمطية اختيار العلماء، بعدم الاقتصار على تزكية اللاحقين من علماء سابقين، لأن في هذا تدوير للفكر الواحد الذي يسبب توارث الضعف المحذور.
ثانيا: لا بد من تطوير مهارات علماء الدين، لإدراك حاجات الناس ومستجدات الحياة أولا فأول، ضمانا لسلامة النظر، وصحة التعليل، وصواب الرأي المستهدف.
ثالثا: لا بد من اقتراب علماء الدين من كل فئات المجتمع عبر وسائل الإعلام، وتحديث طرق تواصلهم مع الناس، ومشاركتهم في مناسباتهم؛ لضمان دوام الارتباط بهم.
رابعا: ضرورة تنشيط التعددية في جميع اهتمامات المجتمع؛ لا باصطناعها ودعمها، بل بتهيئة المناخات المناسبة لظهورها، وإتاحة الفرص لتجربة نظرياتها ورؤاها ونقدها؛ لإثراء الساحة المحلية.
خامسا: وجوب السيطرة على التيارات المسيّسة؛ أيا كانت منطلقاتها دينية أو غير دينية، بتفعيل مبدأ الثواب والعقاب على أفعال وأقوال رموزها، ومراقبة تأثيراتها، حتى لا تجنح بالمجتمع إلى المواجهة والصراع المؤدي إلى التفكك.
سادسا: الاهتمام بعقد المؤتمرات والندوات والمناظرات بين تلك التيارات، للخروج بها من العمل السري إلى المواجهة العلنية.
وأخيرا:
من اللائق استشعار المسؤولين في المؤسسات الدينية والأمنية والسياسية أن وظائفهم أمانة ملقاة على عواتقهم من ولاة الأمر، وأنها تكليف عليهم لا تشريف لهم، وأن أي تقصير منهم في أداء واجباتهم وتطوير أدائهم سيجعلهم هدفا لسهام الحزم والعزم.