من الضرورة بمكان نقد المسلمات التراثية والعمل على تصحيح كثير من المسارات الفكرية القديمة، بما فيها قواعد اللسان العربي الذي استعصى على النقد طويلا، ولعله كان من أكثر الأمور الفكرية استعصاء على النقد
ضغط التراث على الواقع العربي أكثر بكثير من ضغط الحاضر على الواقع رغم تبدل الأحوال في العصر الحديث، بل والعصور السالفة أيضا، ورغم عدد كبير من التحولات التراثية فضلا عن الحاضر إلا أن التراث تحول ليكون واحدا من المسلمات التي يصعب معها النقد، بحيث يتم تجهيل، أو تضليل، أو ربما تفسيق وتكفير كل المخالفين المتجاوزين للأفكار أو القيم التراثية، حتى لو كانت من التراث نفسها، يشهد على ذلك المدونات القديمة والحديثة، فالتساهل في تفسيق أهل الهوى أو الضلال وتكفير بعضهم بحسب منطوق المكفراتية أو المضللاتية.
وبحسب رأي محمد عابد الجابري في كتابه: (تكوين العقل العربي) فإن الأثر الأكبر الذي أثر على العقل العربي أنه تشكل متأخرا في مرحلة التدوين، أي لم يكن هو العقل ذاته فيما قبل الإسلام، أو في عصور الإسلام الأولى؛ بل كان التأثير أكثر هو في مرحلة التدوين التي جاءت في العصر العباسي الأول أي بعد ثلاثمئة سنة من انطلاق الرسالة المحمدية، الأمر الذي عمل على إقفال الفكر العربي في مرحلة التدوين، بحيث إن أغلب ما جاء بعده كان متأثرا بتلك المرحلة، وهي المرحلة التي (ربما) خلقت نوعا من التسليم التراثي اللاحق ليكتفي الفكر العربي بالشروحات المطولة دون نقد الكتب المشروحة أو تجاوزها لسياقات فكرية جديدة إلا نادرا، وغالبا ما تم تغييب هذا النادر عن الدارسين العرب.
من ذلك النادر في التراث العربي الذي نقد المدونات السابقة ولم يكن مكتفيا بالشروحات ما فعله ابن مضاء القرطبي في كتابه: (الرد على النحويين)، الذي هاجم النحاة، ونقد عددا من قواعدهم النحوية التي صارت من الصعوبة بمكان على الطلاب فهم كثير منها؛ فضلا عن نقدها أو تجاوزها أو الخروج عليها، هذا غير أن تلك القواعد اتسمت بنوع من التسليم الفكري، بحيث يتم رفض نقد القواعد النحوية التي تم صكها، والاختلاف وارد فقط بين البصريين والكوفيين، في حين يتم رفض ما سواهما، لكن ابن مضاء القرطبي تجاوز ذلك، حيث كان يدعو إلى إلغاء نظرية العامل في النحو أي المسبب في الموقع في الإعراب النحوي من حيث عمل الرفع والنصب والجر والجزم، بحيث أنه كان يرى فساد تعليلات النحويين في تأثير عامل المبتدأ أو الفعل في الرفع مثلا، لأن الذي يعمل الرفع أو النصب أو الجر أو الجزم هو المتكلم وفق كلام العرب القدامى، مما يلغي عنده الضمير المستتر الذي يعتمده النحاة في تعليلاتهم على فاعل الفعل وغيرها من القواعد.
وامتدادا لهذا النهج هناك عدد من المحاولات لعل منها ما حاوله شوقي ضيف اعتمادا على كتاب ابن مضاء في الحد من تعقيدات القواعد النحوية، لكنها محاولة لم تجد لها قبولا في الفكر النحوي العربي الحديث.
وقريب من ذلك ما يحاول أن يفعله الدكتور: سلمان بن سالم السحيمي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من تصحيح بعض مسارات النحو، ففي محاضرة له في نادي المدينة الأدبي الأسبوع الفائت بعنوان: (الاختلاف بين تصور النحاة واستعمال العرب - تقديم الفاعل على الفعل أنموذجا)، يرى السحيمي تجاوز تعقيدات النحاة في قواعدهم والاعتماد على منطوق العرب، وكلامه امتداد لكلام ابن مضاء في مسألة العامل، فهو يرى جواز تقديم الفاعل على الفعل وإسقاط ما يسمى بالضمائر المستترة، إذ لا حاجة لها لوجود الفاعل حتى لو كان متقدما على الفعل، لأن المعتمد عليه هو المتكلم، أي على فكرة الإسناد كما عند البلاغيين في علم المعاني وليس للتعليل النحوي.
من جهة أخرى، خرج كتاب مهم في الدراسات النحوية بعنوان: (تدليس ابن مالك في شواهد النحو) للباحث فيصل بن علي المنصور، الذي رأى في كتابه أن ابن مالك (صاحب الألفية في النحو الشهيرة) قد وضع عددا كبيرا من الشواهد النحوية من عنده، ولم تكن تعرف في الشعر العربي، أو عند النحاة من قبله، مما جعل بعض النحاة القدامى يشكون في أمر هذه الشواهد، فهو قد وضع قريبا من سبعمئة بيت من الشعر من عنده، كشواهد على قواعد نحوية مختلف حولها في السابق، الأمر الذي يجعل إعادة النظر في تلك الشواهد، أو حتى القواعد النحوية التي جاءت الشواهد عليها ضرورة معرفية، مما يمكن أن يثري الساحة النقدية في الدراسات اللسانية الشيء الكثير، بحيث يمكن صناعة نحو يتناسب مع التحولات العديدة في العصر الحديث.
وبعيدا عن مسألة الاتفاق أو الاختلاف حول تلك القضايا النحوية التي شكلت اللسان العربي؛ إذ هي عادة تكون في الدرس النحوي، إلا أنه من الضرورة بمكان نقد المسلمات التراثية والعمل على تصحيح كثير من المسارات الفكرية القديمة بما فيها قواعد اللسان العربي الذي استعصى على النقد طويلا، ولعله كان من أكثر الأمور الفكرية استعصاء على النقد، لما له من حصانة كبيرة لا يمكن المساس بها بسهولة كما في غيرها، ففك الحصار عن التراث والعمل على نقد مسمياته يمكن أن يقود إلى تجدد في الفكر العربي والبحث عن مناطق جديدة فيها من الثراء الشيء الكثير، ولعل الدراسات الحديثة في اللسانيات والنقد التداولي ونقد الخطاب أو النقد الحديث بعمومه ما يمكن أن يسعف في خلق رؤية جديدة للسان العربي، الأمر الذي يمهد إلى نقد كافة مسلمات التراث بحكم الضرورة المعرفية لنقد تلك المسلمات.