في ظل غياب الدراسات الفكرية والمنهجية الإسلامية التي تعالج بشكل عملي فعال النظام العام والمؤسسات العامة وقضايا الحكم والخلافة والسياسة، وئدت العلوم الاجتماعية فاقتصرت على الجانب الشخصي وأهملت الجانب العام

تحدثنا عن (أزمة العقل المسلم)، وهو العنوان المستمد من كتاب للدكتور عبدالحميد أبو سليمان بنفس الاسم، وعرفنا أن أزمة الأمة إنما هي أزمة فكر لا أزمة عقيدة، وهي أزمة منهج لا أزمة فحوى، وهي قضية وسيلة لا قضية غاية.
وحين نستعرض الآفاق الحضارية التي بلغتها الأمة في قرونها الأولى، نجد أنها لم تكن إلا من آثار الدفعة الكبرى التي أحدثها الصدر الأول من الإسلام، وكان لزاما أن تخبو الجذوة بعد انفصام القيادتين السياسية والفكرية. وبذلك أصبحت الأمة لا تعيش إلا على بقايا البناء والهياكل التي أرساها الصدر الأول في الإسلام.
إن أزمة الفكر المسلم اليوم كما يراها د. عبدالحميد أبو سليمان هي أزمة المنهج العلمي الاجتماعي وبناء العلوم الاجتماعية التي تمد الأمة بالمعرفة بالطبائع والفطرات والوقائع والأحوال في الزمان والمكان حتى تتمكن الأمة من بناء فكرها ونظمها ومؤسساتها لتحقيق قيم الإسلام ومبادئه وغاياته.
ويقوم الكاتب بتقويم ونقد المنهج التقليدي للفكر الإسلامي، موضحا الآليات التي تتحكم في منهجية الفكر المسلم في سبيل فهمها، فيبين أن المنهج الإسلامي الفكري كما نعرفه اليوم تتمثل مصادره فيما يعرف بأصول الفقه الذي تشكل على يد مجموعة من كبار العلماء والتابعين وتابعي التابعين، ويعتبر كتاب الرسالة للإمام الشافعي هو أول مصنف علمي في هذا المضمار.
وعلم الأصول يقوم على مجموعة أساسية تتكون من المباحث المتعلقة بالقرآن والسنة والإجماع والقياس والأصول الثانوية والأدلة المختلفة، منها الاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب والعرف الصحيح وسد الذرائع وأقوال الصحابة وعمل أهل المدينة وغيرها.
ويبين نوعين من العلوم: شرعية وغير شرعية. أما الشرعية فهي مجموعة العلوم الشرعية وتقسيماتها التي هي علوم القرآن والسنة وعلوم الفقه وعلوم العقيدة وعلوم اللغة العربية، وبذلك فإن مؤهلات الدراسة الشرعية هي مؤهلات لغوية نظرية (ليست عملية)، وهي تاريخية (ليست بالضرورة معاصرة)، وبذلك ضاعت حكمة السياسة الشرعية ومقاصد الشريعة وحركية الفقه والفكر الإسلامي، وبذلك لم تنل دلالات النصوص الشرعية ومعانيها ومقاصدها وغاياتها خارج الإطار اللغوي حظها المنهجي المناسب من البحث والعناية والتدقيق.
ويؤكد أن عزلة القيادة الفكرية الإسلامية ومحدودية اهتماماتها ومزاولاتها الاجتماعية والسياسية لم تمكن هذه القواعد الأصولية الفرعية أن تمثل منطلق النظر العلمي المنهجي المنظم في أحوال النفوس والكائنات والتنظيمات الاجتماعية، وبذلك لم تتطور العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهذا يفسر تدهور عطاء النظر العقلي الإسلامي، وتدهور الاجتهاد والمبادرة والابتكار وقفل أبوابه في مرحلة مبكرة من تاريخ الأمة. وانتهى الأمر للإغراق في الدارسات الوصفية والنقلية والاحتفاء بالمنهج اللفظي وكل ما يتعلق به من علوم اللغة والأدب.
وفي ظل غياب الدراسات الفكرية والمنهجية الإسلامية التي تعالج بشكل عملي فعال النظام العام والمؤسسات العامة وقضايا الحكم والخلافة والسياسة، وئدت العلوم الاجتماعية فاقتصرت على الجانب الشخصي وأهملت الجانب العام. وبذلك قامت معركة وهمية بين الوحي والعقل، وضاع مفهوم الأمة وشمولية الإسلام الذي يعتمد على التلاحم بين الوحي والعقل. إن الإجماع الذي يتوجب السعي إليه هو إجماع أساسه الاجتهاد والشورى، أي الالتزام برأي الأغلبية (أغلبية الأمة المتمثلة في القيادات الحقيقية الملتزمة إذا تعذر اتفاقهم جميعا على رأي أو مفهوم واحد).
ثم تطرق إلى أصول المنهج التقليدي في التعامل مع بعض القضايا مثل قضية النسخ والربا، وقضية إضفاء القدسية على أقوال السلف بالرغم من أنه لا قداسة إلا لوحي، فيقول: لهذا نجد أن أي فكر أو فهم معاصر شمولي أصيل ينطلق من الواقع المعاصر باتجاه المقاصد والقيم والأحكام الإسلامية يصبح لدى كثير من أصحاب الفكر التقليدي فكرا مشبوها ومرفوضا.
ودعا إلى أن تضبط أعمال السنة النبوية ونصوصها مبوبة ميسرة مصفاة من الشوائب، وتقسيمها إلى أربع فئات بينة واضحة المنهج: ما كان منها موضع الحجة لصحة السند وصحة المعنى (المتن)، ما كان منها موضع الاستئناس لصحة المعنى (المتن) وعدم المقدرة على القطع بصحة السند، ما كان منها موضع التوقف ودقة النظر لما يشوب ظاهر المتن من معان لا تتفق وروح الشريعة وأمهات مقاصدها رغم ما يظهر من صحة الرواية والسند، ما كان منها موضع الرفض لفساد المتن والسند.
وقد تحدث عن إطار منهجية الفكر الإسلامي ومعارفه من تكامل الغيب والشهادة، وهو المفهوم الذي يحدد معنى الحياة والوجود وعلاقة ذلك بما وراء الحياة وما وراء الوجود وما وراء المادة، فعلاقة الإنسان وفق مفهوم الإسلام بعالم الغيب هي علاقة خيرة بناءة تهدف إلى إقامة الحق والعدل في الحياة الإنسانية وإعمار الأرض وصيانة الكائنات والأرض من الفساد. وقد لخص أهم مبادئ عالم الغيب ومعطيات الإنسان بنقاط نذكر منها: الوجود له غاية خيرة أخلاقية ولم يخلق عبثا. وجود الله سبحانه وتعالى. الدار الآخرة. الدنيا مجال عمل وإعمار وصلاح. الإرادة الإنسانية من علم الله ومن أمر الله ومن إعجاز خلق الله. الهداية والضلالة في الحياة الإنسانية مصير فردي سبق في علم الله. خلق الله الإنسان ووهبه العقل والعلم ومنحه حرية الإرادة. دون طلب الفعل والأسباب لا تكون الإرادة ولا يكون العزم ولا تتحقق غاية ولا تعتبر. العقل والإدراك الإنساني أداة الإنسان الأساسية وميزتهما لحمل مسؤولية الاستخلاف في الكون وإعماره. الوحي هو المصدر الإلهي الذي يمد المعرفة الإنسانية بحاجاتها. الوحي والعقل يتكاملان لتحديد موقع الإنسان في عالم الشهادة، وهو الوحي الموثق الصحيح الذي هو مصدر أساسي لمعرفة الإنسان، أما العقل فهو أداة للفهم والإدراك والنظر والتلقي والتمييز والموازنة.
أما مصادر الفكر والمنهجية الإسلامية، فهي الوحي والعقل والكون. فالرؤية الإسلامية القويمة يتكامل فيها الوحي والعقل والكون، فيقول الدكتور أبو سليمان: فلا مجال ليصبح الوحي في الرؤية الإسلامية السوية تعطيلا للعقل وتشكيلا له في أنماط وصور تاريخية وتحويله إلى سياط من التخويف والإرهاب، وإلى قيود من الأوامر والتجريمات والتحريمات التي لا تتعلق بأحوال الناس ومجريات حياتهم.