هناك من يخبئهم التاريخ وهناك من يختبئون داخل التاريخ، والشخصية التي فاجأني وجودها ضمن مجموعة من التسجيلات النادرة التي تحويها مكتبتي الصوتية شخصية بكل المقاييس متفردة في علمها وعملها، طبيب من الطراز الأول، مثقف بامتياز معطاء بلا حدود، إنه الدكتور محمد بشير حقي، واحد من الشخصيات الناجحة التي اختبأت داخل التاريخ، حاورته ذات يوم قبل نحو ثلاثة عقود وهو في الحادية والسبعين من العمر، فتح لي أبوابا من المعارف على الثقافة والإدارة وجغرافيا الإنسان والمكان في منطقة عسير.
ما شدني في ذلك الوقت في شخصية الدكتور بشير ثقافته التي كنت أحتاج للإصغاء إليها وأنا أخطو خطواتي الأولى نحو عالم المعرفة، كما بهرني بقراءاته المتنوعة في شتى مشارب الثقافة ومجالات الأدب وأجناسه عن منطقة عسير، تحدث إليّ في ذلكم التسجيل الذي لم ينشر بعد فقال: نُقلت للعمل مندوبا لصحة عسير عام 1960، وكنت قد عينت قبلها مندوبا لصحة جازان عام 1954، واستمر عملي في عسير للفترة الأولى نحو ثمانية أعوام ثم نُقلت بعدها للعمل مندوبا لصحة الحدود الشمالية.
استدعاء الأمير
ومن هناك أي من الشمال استدعاه الأمير خالد الفيصل في بداية عهده أميرا لعسير لمقابلته، عندما علم سموه أن الرجل قد طاف أرجاء المنطقة راجلا وراكبا وهو يعد دراسة ميدانية لحاجة المنطقة من الخدمات الصحية في السراة وتهامة خلال فترة عمله الأولى بعسير، وهذا الاستدعاء كان بهدف الإفادة من محصلة المعلومات التي دونها، في وقت كانت المعلومات الإحصائية والجغرافية عن المنطقة شحيحة والحاجة إلى القليل منها ضرورة في ظل تطلعات الأمير خالد لما يسند طموحاته ويعين على تنفيذ خططه التنموية في المنطقة. وبعد هذا اللقاء عاد الدكتور بشير للعمل ثانية مديرا عاما للشؤون الصحية في منطقة عسير إلى أن تقاعد.
الموت يسبق المعجم
وعن مصنفه الجغرافي الذي أعده أطلعني -رحمه الله- على مجموعة من الدوسيهات الكبيرة تحتوي على مئات الصفحات من المعلومات والرصد والمشاهدات التي يعكف على مراجعتها وتنقيحها لتصدر في سلسلة من الكتب تكون في متناول القارئ، وقد جهز منها الأجزاء التي تخص إقليم تهامة عسير، وبات كما قال جاهزا للنشر، وكان يعكف في ذلك الوقت على مراجعة وتنقيح الأجزاء التي تخص السراة، تبادل وعلامة الجزيرة حمد الجاسر المراسلات حول بعض المعلومات الجغرافية والمسميات المكانية الخاصة بمنطقة عسير، وقد دفعه الشيخ الجاسر إلى سرعة إنجاز ذلك المصنف الجغرافي إلا أن الرجل رحل عن دنيانا قبل أن ينشر كتبه، غير أن حدسي يقول إن الكتب سترى النور يوما ما!.
نشاط ثقافي
وعند انطلاقة نادي أبها الأدبي في النصف الثاني من تسعينيات القرن الهجري الماضي كان الدكتور بشير من أوائل من تفاعل مع أنشطته المنبرية وقدم محاضرة علمية تخصصية في مجال الطب، ولما كان لتلك المحاضرة من أصداء واسعة فقد دفعت إدارة النادي لطباعتها ونشرها تعميما للفائدة.
بعد هذا اللقاء الثري والحصري هممت بالانصراف فقام بتواضع الكبار ليرافقني إلى خارج المنزل، حاولت إقناعه بعدم مغادرة مجلسه فأبى إلا أن يصاحبني إلى فناء المنزل، لمحت في طرف الفناء سيارة طالما بهرتني وأنا صغير أشاهدها تجوب شوارع مدينة أبها، التفت نحوي ـ رحمه الله ـ وهو يرمق الدهشة على محياي وقال: هذه سيارتي وأنا شاب، وقد بلغ منها الزمن بمثل ما بلغ مني فتقاعدت، خذها يا بني فقد تجد عندك هذه المتقاعدة اهتماما أفضل مما عندي خاصة وأن المغيب قد دنا، قلت أطال الله عمرك ومتعك بالصحة، دعها فبينكما لغة مشتركة وعشرة عمر. قلت ذلك وأنا يشهد الله أني لحظتها أتفطر عليها كما يتفطر قلبي الآن حسرة.
* باحث في التراث
همسة
لقد أهمل التاريخ الإداري في عسير شخصيات إدارية قدمت للمنطقة كبير الجهد والعطاء في وقت ندرت فيه وسائل النقل والمعطيات الحضارية الحديثة، من أمثال الدكتور بشير والشيخ محمد صالح الفواز والدكتور فؤاد أبو غزالة والسيد طلعت وفا، وإن شاء الله سوف أتناول ملامح من سيرهم في وقت لاحق إذا بقي في العمر بقية.