الأسبوع الماضي قرأت مقالة للزميل الكاتب في رأي الوطن وليد فتيحي، بعنوان أزمة العقل المسلم، والتي افتتحها بقوله: إن معركتنا الحالية والقادمة هي معركة تحرير عقل أكثر من كونها معركة تحرير أرض، بل إذا أردت أن تحتل أمة، فاحتل فكرها واهزم عزيمتها تأتيك أراضيها وخيراتها كلها تسعى إليك طواعية. وإنها بحق أصعب مهمة، لأن احتلال الأرض تسهل معاينته ورؤيته واضحا جليا، أما احتلال الفكر والعقل فلا يدرك من صاحبه بالعقل الذي هو داؤه. هذه المعاني أكد عليها الدكتور عبدالحميد أبوسليمان في كتابه المميز (أزمة العقل المسلم) الذي يستحق أن يكون مشروع العصر، وهو كتاب في أصله يتضمن مجموعة كبيرة من الأبحاث والدراسات والمحاضرات التي شارك فيها وقدمها كاتبنا على مدى عقود من الزمن. وفيه يحاول الكاتب التعمق في داء الأمة وتوصيف الدواء: داء التيه الحضاري الذي تعيشه الأمة منذ مقتل سيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله عنهما وأرضاهما إلى يومنا هذا. ويقدم الكاتب مفهوم (الأصالة الإسلامية المعاصرة) ويؤكد أنها منطلق الحل، فيفند منطلقات مختلفة للخروج من الأزمة، هي: منطلق التقليد الأجنبي، منطلق التقليد التاريخي، منطلق الأصالة الإسلامية.
توقفت كثيرا عند ما طرحه الزميل فتيحي نقلا عن مؤلف الكتاب من أن (مفهوم الأصالة الإسلامية المعاصرة) هي منطلق الحل للخروج من الأزمة التي يعيشها العقل المسلم!
لأن البدء في البحث عن حل لمثل هذه الأزمة الطاعنة في الزمن -من وجهة نظري-، لا يمكن إلا أن يكون بالعودة المتأملة والباحثة إلى أبعد من ذلك، أي بالعودة إلى الجذور، فاجتزاء مرحلة متأخرة من تاريخ العقل العربي، متمثلة في مرحلة المعاصرة الإسلامية، أو التقييد بمرحلة ما بعد الإسلام، هو أشبه بالبدء من الطرف وليس من المركز، وهو ما سيجعلنا أمام صدامات لا تنتهي من المشكلات المتراكمة القريبة من الوعي الإسلامي المعاصر فقط، البعيدة عن الذاكرة التاريخية العميقة للعقل العربي ذاته، وهذا لن يجعلنا نبحث عن حلول جذرية لإحدى أهم قضايا الإنسان المسلم.
وأرى أن أهم أجزاء البحث لا بد أن تتركز في العودة إلى الجذور المكونة للعقل العربي، تلك الجذور التي وضعت الأسس الأولية لطريقة تفكير العقل الإسلامي تاليا، العودة إلى الجذور التي شكلت بنية العقل العربي في الوعي واللاوعي، وسط بيئته المحيطة التي أسهمت في صنع ما يشبه الإيمان بما تلقاه عبر تاريخه الممتد، وترسخت كمفاهيم لا تقبل الجدل من الصعوبة بما كان تفكيكها والتغلب عليها بسهولة، وهي نتيجة مقبولة منطقيا لما تلقاه وما يملأ به وعيه، كمكون مهم أوجده التراكم المعرفي، الذي سيطرت عليه ثقافة أحادية متباينة في بنيتها، وتعددية عصبية في قبليتها، غاب عنهما التنوع الفكري، بسبب مشكلات وصعوبات منها ما هو بيئي طبيعي، ومنها ما هو اجتماعي صرف، حكمته الأعراف والتقاليد والقبيلة وسيطرة الجماعة.
وتذكرت تناول المفكر الإسلامي محمد عابد الجابري لما يعنيه في كتابه بنية العقل العربي، وما قصده في ذلك كتعريف للعقل العربي إنما هو جملة مبادئ وقواعد الثقافة الإسلامية والمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، وتفرضها عليهم كنظام معرفي، أي كجملة من المفاهيم والإجراءات التي تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية.
وهو ما يدعم فكرة العودة إلى جذور الثقافة التي شكلت العقل العربي فالإسلامي، وحينها سنجد أن بنية العقل الإسلامي تشكل الجزء الأكبر منها من قواعد العقل العربي، والجزء الأكبر من الحل يكمن في تفكيك تاريخه وبنيته من هناك، لكي نتمكن من فهم المنطلقات الثلاثة التي ذكرها كتاب (أزمة العقل المسلم)، وأهمها كما أرى، منطلق التقليد الأجنبي، الذي نعيش واقعا كبيرا منه في الوقت الراهن، لأنني أظن أن مشكلة عدم تواصلنا فكريا مع المتغيرات الزمكانية والعالم من حولنا، وأزمة العقل الإسلامي؛ تكمن في إهمالنا لتفكيك بنية العقل العربي أولا، وهو الذي انطلق الإسلام من خلال بنيته وتكوينه.