انتشر في زماننا كثير من المعبرين بلا علم ولا معرفة، وهذا من ضعف الوازع الديني، وحب الشهرة مع قلة العلم، فلا ينبغي للرؤيا أن تقص إلا على ذي علم ورأي وحكمة ونصح
انتشرت في واقعنا المعاصر كثرة المنامات وتزاحمت الاستفتاءات بشأنها، خصوصا من النساء، حتى غدت الرؤيا مدار كثير من البرامج والأسئلة، وصاروا يعتمدون على مناماتهم أكثر من اعتمادهم على يقظتهم، وصارت الغيبيات أكثر تعلقا من المشاهدات.
والرؤيا الصادقة لها ثمرة، ومن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما وكان أول إخوانه أسلم، وكان بدء إسلامه أنه رأى في النوم أنه واقف على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله به أعلم، ويرى في النوم كأن أباه يدفعه فيها ويرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخذا بحقويه لئلا يقع، ففزع من نومه فقال: أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن قحافة فذكر ذلك له، فقال أبوبكر: أريد بك خير، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام الذي يحجزك من أن تقع فيها، وأبوك واقع فيها، فلقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بأجياد فقال: يا محمد إلى ما تدع؟ قال: أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يدري من عبده ممّن لم يعبده، قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسلامه.
وحقيقة الرؤيا فيما ذكره ابن حجر حيث قال: وكّل الله بالرؤيا ملكا اطّلع على أحوال ابن آدم من اللوح المحفوظ، فينسخ منها ويضرب لكل من قصته مثلا، فإذا نام مثل تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والأولى قد تسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلبس عليه رؤياه، إما بتغليطه فيها، وإما بغفلته عنه.
وقال ابن القيم -رحمه الله- في بيان حقيقة الرؤيا: إنها أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا ليستدل الرائي بما ضرب له من المثل على نظيره ويُعبر منه على شبهه.
والرؤيا هي التي تتضمن بشرى للعبد بخير يصيبه دنيا وأخرى أو إنذارا أو تحذيرا له من الوقوع في شيء قد يعرض له، فهذا من لطف الله تعالى بعبده أن ينذره ويحذره قبل أن تعرض عليه هذه الأشياء لينتبه لها، وأما الحلم فهو أخلاط لا حقيقة لها، بل مداره على الفزع والحزن وغير ذلك مما فيه ما يكرهه الإنسان.
ويشرع في الرؤيا الصالحة أن يعلم بأنها من الله، وأن يحمد الله عليها، وأن يحدث بها من يحب، وألا يقصها إلا على ذي علم ورأي ولب وحكمة ونصح، وأما الرؤيا غير الصالحة فتسمى (حلما)، وهو الذي يفزع ويقلق، وينبغي لمن رأى حلما أن يستعيذ بالله من شرها، والاستعاذة من الشيطان، وأن يبصق عن شماله، مع اليقين بأنها لا تضره بإذن الله، وعليه أن يتحول عن جنبه هذا إلى جنبه الآخر، ويقوم فيصلي، ويقرأ آية الكرسي، وألا يحدث بها أحدا، والرؤيا فيها من المنافع ما الله به عليم، وهي من جملة نعم الله على عباده من بشارات المؤمنين وتنبيه الغافلين وتذكرة المعرضين وإقامة الحجة على العائدين.
وقد انتشر في زماننا كثير من المعبرين بلا علم ولا معرفة، وهذا من ضعف الوازع الديني، والغفلة عن الآخرة، وحب الشهرة مع قلة العلم، ومن أراد أن تصدق رؤياه فليكن صادقا في يقظته، وأن ينام على وضوء لتكون رؤياه صالحة، والتزامه بالعفة، وألا يقصها على جاهل أو عدو، وأما المعبر فلا بد أن يكون عالما حاذقا بعلم تأويل الرؤى، وألا يؤولها إلا بعلم وإدراك، وإذا قصت عليه الرؤيا أن يقول: خيرا، أو يقول خيرا تلقاه وشرا تتوقاه، وأن يكتم على الناس عوراتهم فلا ينشر خصوصيات الناس، وألا يعبر إلاّ بعد أن يتعرف ويميز كل جنس وما يليق به، وأن يكون فطنا ذكيا تقيا نقيا عالما بالكتاب والسنة ولغة العرب وأمثالها وعادات الناس وتقاليدهم، وأن نؤمن بأن الرؤيا ليست يقينية ولكنها ظنية، ولا يجوز أن تؤثر على شؤون ديننا ودنيانا إلا بالخير، وألا نكون رهينة بيد الرؤيا وكأنها غدت يقينية.