في حوار مع صديقي المتعصب قبليا، والمهتم بالقبائل وأنسابها -في زمنٍ يتحتم علينا فيه أن نتجاوز الانتماءات الضيقة- أصر على أن لفظة: عسير لا تحمل من الدلالات سوى دلالتها القبلية الضيقة كضيق أفقه، والمحدودة كقراءاته.
ولما لم يستطع هذا الصديق استيعابَ ما حاولت أن أزرعه في ذهنه زرعا من اختلاف دلالة لفظة: عسير، عما يحمله ذهنه، آثرت أن يكون هذا المقال عن رأيي في مراحل التطور الدلالي التي مرت بها هذه اللفظة، وهو رأي مبني على قراءات واسعة في المصادر التاريخية والجغرافية والرحلاتية ومعاجم الأماكن.
ملخص الرأي أن عسير: اسم كان يطلق على قبيلة فقط، ثم صار يطلق على إقليم، ثم على إمارة، حتى صار يطلق على منطقة إدارية سعودية، وفي أثناء التطور الدلالي الأخير، صار -عند بعض الكتاب والباحثين الشباب المهتمين بثقافة المكان وأبعادها الحضارية- يطلق على ثقافة لها مميزاتها الخاصة المستمدة من سمات المكان بوصفه بيئة استقرار، ولا يعني -عندهم- ثقافة القبيلة، وإنما يعني ثقافة المكان الإقليم الواسع.
وللإيضاح أقول: إن تحولات مدلولات الاسم، قد أحدثت خلطا في الربط بين الدال ومدلولاته المختلفة، ليتماهى الخلط مع الخلاف حول سبب هذه التسمية، ومداها الزمني التاريخي، ومع الخلاف حول أسباب تعدد مدلولات اللفظة، وضيق مدلولها واتساعه، تبعا للتحولات التاريخية، المفضية إلى تعدده التردّدي بين: القبيلة، والإمارة، والإقليم، والمنطقة، والثقافة.
ليس من شأني في هذا المقال، التفصيل في الأقوال المختلفة، حول نسب قبيلة عسير، ولا يهمني القول في الخلاف حول أزديتها أو عدنانيتها؛ لأن التركيز على التطور الدلالي للفظة: عسير، أولى من البحث في نسب قبيلة، ولأن القول في تطورها الدلالي يزيل أنماطا شائعة من اللبس المفضي إلى سوء فهم مراد الدراسات المتعلقة بالثقافة في بيئة ثقافية اصطلحنا على تسميتها: عسير، وتظهر آثارُ سماتها على النتاجين: الأدبي، والفني، ظهورا واضحا، لتكون هذه الآثار مبررات مقبولة للدراسات الثقافية.
إن سوء فهم مراد الباحثين، في هذا النوع من الدراسات، ناجم عن سيطرة الروح القبلية، والمنطلقات العنصرية، على أذهان بعض القارئين العاجزين عن استيعاب مدنية الدراسات الثقافية، وأنها لا تلتفت إلى عِرْق أصحابها، وانتماءاتهم القبلية.
المورخ علي آل قطب، استنتج من إشارات الرحالة والجغرافيين القدماء، بدهيتين مهمتين، وعلى الرغم من كونهما بدهيتين، إلا أنه أحسن في تحريرهما تحريرا علميا؛ لأهمية ذلك في إزالة اللبس السائد بين دلالات اللفظة.
البدهيتان اللتان ذكرهما آل قطب هما: أن الدال عسير دال على القبيلة أولا، وأنه عند الدلالة على الإقليم، مأخوذ من دلالته القبلية الأولى، بمعنى أنه طرأ على اللفظة تطور أو تفريع دلالي. يقول آل قطب: مسمى عسير جاء في البداية كدلالة قبلية، أو هو لفظ يشير إلى تكوين قبلي، وهو إذا تمت موازاته مع أقوال الرحالة والجغرافيين القدماء، والذين لم يشيروا إلى مسمى عسير كدلالة إقليمية، فإنه من المؤكد أن دلالة المسمى القبلية هي الأسبق وجودا وتاريخا من دلالته الإقليمية، علاوة على أنه من المقطوع به أن هذه الدلالة الأخيرة، هي فرع من الدلالة الأولى.
وعليه، فإن القول بأن الدال عسير، كان -في البداية- للدلالة على القبيلة، لا على المكان، قول راجح بأقوال القدماء، ولا عيب فيه، لكن العيب هو عدم إدراك التفريعات والتطورات الدلالية للفظة.
وعلى ما سبق، أزعم أن الاختلاف في تحديد المكان الذي يُطلق عليه: عسير، والاختلاف في دلالة اللفظة، ناجمان عن خلط بعض الرحالة والباحثين بين: الإقليم، والتشكيل القبلي، وهو الخلط ذاته الذي وقع فيه صديقي المتعصب قبليا، ويقع فيه العصبيون عامدين أو جاهلين.