هياط وعار تكاد تكون أكثر مفردتين تكررتا خلال الأيام السابقة في مجتمعنا السعودي، تناولها الشارع والإعلام بمزيج من الاستهجان والسخرية والتفنيد والنقد، على الرغم من أنها تعيش في وجدان الكثير كيقين مسلم به، وإن ادعى بعض من هذا الكثير المثالية بنفي التهمة عنه لأي سياق يخصهما، أو أعلن في ظاهر تصرفه وكلامه غير ما يُسر ويخفي، والحديث هنا ليس مطلقا، فهناك مثلا من بالفعل لا يعرف لـالهياط طريقا لأنه لا يوجد لديه ما يهايط به ضمن حشود المهايطيين، وهنا قد يضطر للعودة إلى الأصل والفصل أو القبيلة والمذهب والدين، أو ما يقوم مقامها من أمور معنوية ترضي تلك النزوة المهايطية المتجذرة في الدم العربي. ولأن الهياط قد أُشبع حديثا وتعليقا في عدة مقالات وصحف، فبقي لي أن أتحدث عن العار باعتباره خصوصية نسائية أنا طرف فيها وأعدّ مع آلاف غيري عارا في نظر البعض من أبناء وطني.
لم يكن حديث ذلك الشيخ الدكتور غريبا عن الوعي التراكمي في مجتمعنا، بل كان يقوله وهو ينفض يده تقززا وبملامح تعبر عن مدى استيائه من تلك التي ينتظر لها فاعل خير يسترها ويريحه من عارها، أو بتوصيف مادي بعض الشيء: ينتظر أن ينقل ملكيتها منه باعتباره ولي أمر لها إلى ملكية آخر، ويكون من لديه الملكية الجديدة هو المسؤول عن هذا العار وتبعاته.
أتعجب من استنكار الكثير لهذه الحقيقة القطعية في أذهان الناس وفي مختلف المجتمعات، حقيقة قامت منذ عصور قديمة، وعزز وجودها قيم دينية وأعراف اجتماعية وتقاليد جعلت من فكرة أن المرأة عار تخرج عن إطار الجدل والاختلاف لسنين طويلة إلا من سلم.
منذ القدم تُعدّ القوة التي تقوم عليها الشعوب والثروة الأولى لها هي ثروة الإنسان، ولأن المرأة فسيولوجيا هي المسؤولة عن إنتاج هذه الثروة وزيادتها؛ أصبحت قيمتها الاعتبارية بيد الرجل الذي يؤسس هذه الأسرة وبالتالي القبيلة، ويحرص على خضوعها لمشيئته ويتحكم فيها بما يتناسب مع أهدافه في التوسع والانتشار والقوة، هذه القوة التي يربطها بنقاء سلالته وتوحيدها برباط الدم الذي يختاره هو أو عدة رجال آخرين معه. ولأن أي خطأ أو ممارسة قد تُدخل على القبيلة دما غريبا، فإن التحرز على المرأة ومحاولة السيطرة عليها وإخضاعها إلى قوانين العرض والعار والشرف أصبحت معروفة بين القبائل، وأصبحت لا تخرج عن كون المرأة عارا محتملا يُخشى أن تقود لكوارث وحروب وانتقاص بين القبائل. وقد ورد في القرآن الكريم كيف كانت المرأة مثار خوف من جلب العار وأيقونة للنقص والعيب: ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون، فها هم المشركون ينسبون لله تعالى ما يكرهون لأنفسهم من بنات دون ما يحبون لأنفسهم من بنين.
 هذا الخوف قد يتطور لسلوك لا إنساني يمارس ضدها: وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هون أم يدُسه في التراب، فهنا يجد نفسه بعد حزنه لولادة أنثى له حائرا بين أن يُبقي عليها مع شعوره بالهوان ونقص القيمة بين الناس، أو أن يتخلص منها بوأدها ويُعد بين قومه شُجاعا منتصرا. هذا الشعور بالانهزام أمام ما يتصور الرجل العربي أنه سيحصل له من عار بسبب الأنثى لم تجد نفعا معه بعض القيم الدينية التي لطفت التعامل مع المرأة واعتبرتها إنسانا مستقلا يُحاسب بشكل مشابه لشريكها الرجل، بل إنه خُلع على كثير من العادات والتقاليد المكرسة ضد المرأة إلى يومنا هذا قبة سماوية، كما يقول العالم الأنثربولوجي جورج بالاندييه، تتمثل في صورة دينية تكرس معايير الحرام والممنوع والمقدّس. وأصبحت الأجيال لا تجد فرقا بين ما هو ديني وما هو دنيوي ولا بين ما هو إسلامي وغير إسلامي وازداد هذا الخلط والتضييق في ظل الانغلاق الاجتماعي الذي نعيشه ونمط الفصل المُقنن بين المرأة والرجل في أغلب جوانب حياتنا.
هذه النظرة للمرأة القائمة على أساس طبيعتها الفسيولوجية جعلت التعامل معها ماديا يرى فيها إنجاب الأبناء وخدمة الرجال، وبالتالي هي حق لمن تكون تحت ظله من أب أو أخ أو زوج، يُداري وجودها بالقسوة والغلظة ويتفنن في إخفائها وتحقيرها بسبب الجنس الذي تنتمي إليه، ويعدها صفقة لتسهيل الكثير من أموره وقبيلته عن طريق النسب والمصاهرة. لهذا لم يعد مستغربا أن نعلم أن الناس إلى وقت قريب كانت تعارض وجود مدارس للبنات، وما زال البعض منهم يعارض حتى الآن خروجها للعمل في وظائف تقتضي انخراطها في المجتمع حولها. وجميعنا يعلم أن الآلاف من النساء انقادت لمصائر لا ترغب فيها في زواجها لأن هذا ما يريده الولي لها، بل ربما لا تجرؤ على التفكير في المعارضة لمثل هذا القرار، ونعلم أن الكثير من الفتيات منعت من مواصلة تعليمها أو اختيار تخصص ومسار تريده لنفسها وحلمها بسبب اعتراض رجل ما في حياتها تحجج بأنها امرأة.
 وندرك أيضا أن أمورا كثيرة عالقة في حياتنا الاجتماعية والمدنية اليوم بسبب منظور العار هذا، فلا تستطيع سيدة في الخمسين من عمرها السفر خارج البلاد إلا بإذن من ولي أمرها ولو كان ابنها المراهق، ولا تستطيع المرأة أن تقود سيارتها التي تملكها وتذهب بها إلى عملها الذي تعيش منه وأبناؤها، وزوجها الذي ربما يتفنن في التنظير حول العار والفتنة لأنه سمع وأقر هو والمجتمع بكلام من قدم سوء الظن؛ بسبب احتمال العار، فالمرأة إذا قادت سيارتها ستقع محاذير كثيرة وستذهب إلى أي مكان، ولو اتصل عليها فاسد ذهبت إليه!
الفصل الذي يُفرض على المرأة والرجل في حياتنا اليومية بحجة الاختلاط، والتحرج من ذكر اسم الأم أو الزوجة والأخت أمام الآخرين، بل وتسمية المدارس بالأرقام وخلو الشوارع والأماكن العامة من أسماء النساء، كلها تدور في فلك العار الذي قد تجلبه المرأة للرجل، بل إن الرجل نفسه حينما يشتم آخر لا يتورع عن معايرته باسم أحد من النساء في بيته!
هل هذه الحقائق المتراكمة حولنا من النظر للمرأة على أنها بالفعل عار تقتضي التسليم أو الدفاع عما قاله ذلك الشيخ؟ بالطبع لا، ولكن كما نقول دائما، إننا في مجتمع خضع لسنين طويلة إلى خطاب صحوي كرس فيه أنماطا غير إنسانية وغير سوية للتعامل مع المرأة، بالذات مع خلفية العقل العربي الذي يتعامل مع الأشياء بشكل تفاضلي، فتصحيح هذا التفكير وتلك الأنماط هو ما ينبغي البدء به، وبالفعل استطاعت خلال السنوات الماضية العديد من السيدات النضال والعمل للخروج من هذا القالب النمطي وإثبات العكس المترسخ في الذهنية الذكورية السائدة.
العمل على تغيير الواقع لن يكون سهلا، سريعا وعنيفا، بل عليه أن ينطلق من نفس القواعد التي تنطلق منها الذهنية العربية ومن نفس الوسائط التي انطلق منها الخطاب الصحوي المتشدد، من المنابر والمدارس والمنازل، وقبل ذلك من المرأة نفسها التي قد تربي ذاتها وبناتها على أنها عار يجب أن يدارى ويُقمع.