سأعود الى السودان بإذن الله مرات ومرات، زيارة وكتابة، فهذا البلد الذي كنّا نطلق عليه (سلة خبز الوطن العربي)، هو اليوم (حديقة وعي الوطن العربي)، حيث إنني قد زرت معظم دول الوطن العربي، ولم يمر علي هذا الأنموذج من الوعي الذي يتمتع به الإخوة السودانيون، فعلى الرغم من تنوع وتعدد الأعراق واللغات واللهجات والمذاهب بل والأديان، فإن السودانيين يعيشون في سلام اجتماعي وتآلف لا نظير له، والسودان يكاد يكون البلد العربي الوحيد الذي لم يشهد عملية إرهابية واحدة حتى الآن (حماه الله)، والسبب واضح وهو أنه لا تطرف في السودان، وقد سألت: ألا يوجد متشددون؟ فكانت الإجابة: إنهم قلة قليلة جدا تأثروا بالسرورية لكنهم لا يحظون بأي قبول اجتماعي، سيما وقد خرج من تحت أيديهم اثنان أو ثلاثة شبان وذهبوا للجهاد في سورية!!.
    جلست في مجالس ضمت إسلاميين وشيوعيين وليبراليين ومستقلين وغيرهم، وكان الاختلاف واضحا في الرؤى والفكر، لكن الجميع متفقون في أمرين، أولهما: الاختلاف خير والخلاف شر، والثاني: لا مساومة ولا مزايدة على الوطن ومصالحه وهمومه وتطلعاته.
     وفي تجوالي لمدة أسبوع في الخرطوم، وبعض الولايات، وجدت أن هذا المناخ الصحي السائد بين المثقفين والسياسيين، هو القاعدة العامة التي يسير عليها السودانيون كلهم، فقد قابلت وتحدثت مع مستويات مختلفة تعليميا وعمريا ومهنيا، وشعرت أنهم لا يختلفون في فهم التعايش عن كبار المثقفين والسياسيين والمبدعين ورجال الأعمال الذين تشرفت بلقاءات مطولة مع كثيرين منهم في بيوتهم وفي مكاتبهم، وأكاد أجزم أن هذا الوعي النظيف يبشر بثقة وتفاؤل بمستقبل مبهر للسودان، فكثير من النخب الذين التقيتهم يشاركون الآن في مؤتمر الحوار الوطني الذي تشاركهم فيه الحكومة، وقد قام الحوار بدعوة من الرئيس عمر البشير، توجها بتعهد معلن أن تلتزم الحكومة بكل توصيات المؤتمر وتنفذها على كافة المستويات، وفي طليعتها تنظيم انتخابات حرة ديمقراطية لاختيار رئيس للجمهورية.
   السودان يملك فرصا استثمارية واسعة وضخمة في مجالات الزراعة وتربية المواشي والتعدين والسياحة، وقوانين استثمار رائعة ومشجعة جدا، وهذه تحتاج إلى تفاصيل موسعة سأعود إليها لاحقا، لكن كل هذا يكاد يكون في الظل، وهو يحتاج إلى أضواء وإمضاءات مبهرة ودقيقة وموضوعية، ولا شك أن الإعلام هو القادر على ذلك، وهذا ما ينقص السودان الآن.