ولكم يصاب المرء بخيبة الأمل من عدالة دول العالم التي طالما صدعتنا بالحديث عن حقوق الإنسان، وكأنهم يعنون إنسانا آخر غير الإنسان العربي أو المسلم، فإذا تذكروه، اتخذوا منه أداة لإشعال القلاقل والفتن في بلاده بدعوى حقوق الإنسان

 قامت الدنيا ولم تقعد لسقوط 129 ضحية إثر تفجيرات متفرقة شهدتها الجمهورية الفرنسية في أخريات العام المنصرم.
القوى العظمى في العالم أعلنت تضامنها. أساطيل جوية وبحرية تحركت. حرب عالمية مصغرة تشهد استعراضا مفرطا للقوة على ما يسمى بتنظيم داعش في سورية. نيران لا يدفع الدواعش وحدهم ثمنها بكل تأكيد، فالحدود الفاصلة بينهم وبين المدنيين العزل هناك ليست بهذا الوضوح الذي يمكن أن يتسنى بموجبه لفرقاطة ترابط في بحر قزوين ترسل صواريخها المجنحة ألا تسقط على رأس منزل به أطفال سوريون لا جناية لهم سوى أنهم في النصف الذي لا تطوله العدالة الأوروبية من الكرة الأرضية.
ليس هذا المشهد هو الأول في السياسة العالمية متعددة المكاييل، وبالطبع لن يكون الأخير.
129 فرنسيا تحرك من أجلهم المجتمع الدولي، ولم يتحرك من أجل وطن بالكامل. وطن كامل احتلته أميركا في أفغانستان ودمرت بنيته التحتية، ولم يتحرك من أجل مقتل نحو مليون نسمة وتشريد نحو 4.5 ملايين، وما يقرب من مليوني أرملة، و5 ملايين يتيم، في العراق، جراء الحرب الأميركية على العراق واحتلاله وفق تقرير لموقع ألترنت الأميركي المعارض لحرب خلفت هذه البقعة الغالية العزيزة التي كانت يوما أحد حصون أوطاننا العسكرية، أرضا خرابا، وشردت أهلها، حتى إنك لا تجد مدينة في العالم تخلو من عراقيين. تحرك العالم من أجل 129 فرنسيا، ولم يتحرك من أجل ما يربو على 151685 شهيدا موثقا في سورية، وهو بالطبع رقم مرشح للزيادة بقوة إلى عدد تقديري للشهداء يصل إلى 280000 شهيد، 82 % منهم مدنيون، وعدد جرحى تقريبي يتجاوز 262270 جريحا، وعدد معتقلين تقريبا يفوق 282195 معتقلا، وعدد مفقودين تقريبا يفوق 109535 معتقلا.
أما اللاجئون خارج سورية فيربون على 4450940 لاجئا، وفق جهات رصد يقوم عليها ناشطون يوثقون للكارثة السورية.
في سورية يعتقل النظام مواطنا كل 4 دقائق، ويجرح مواطنا كل 10 دقائق ويغيّب مواطنا كل 13 دقيقة، ويقتل مواطنا كل 15 دقيقة، ويقتل 8 أطفال كل يوم، ويهجر كل يوم 2600 مواطنا، والعالم الجائر لا يتحرك. العالم لا يعبأ بالدماء العربية، أو ربما يريد لها أن تراق على مذبح دولة الاحتلال، من أجل تأمين الطوق الإسرائيلي بإلهاء كل دولة في نزاعاتها.
ثلاث اتفاقيات تعويض تلتزم بها ألمانيا تجاه اليهود من ضحايا ما يعرف بالمحرقة النازية، منذ اتفاقية لوكسمبورج 1952، بموجب أحدث هذه الاتفاقيات التي يستفيد منها 80 ألف يهودي يحصل هؤلاء على مبلغ 2556 يورو مرة واحدة، في حين يحصل من يثبتون تعرضهم للسجن أو الملاحقة أو الاختباء ستة أشهر من النظام النازي على 300 يورو شهريا مدى الحياة.
كما تلتزم ألمانيا بمقتضى الاتفاقية الجديدة بتوفير رعاية صحية ومنزلية لمئة ألف من العجزة اليهود الذين ثبتت معاناتهم خلال حقبة الحكم النازي.
حتى نساء المتعة اللائي أجبرن على ممارسة البغاء في معسكرات الجيش الياباني إبان الاحتلال الياباني لشبه الجزيرة الكورية؛ وجدن من يعوضهن بعدما أبرمت طوكيو وسيئول مؤخرا اتفاقا لتسوية الخلاف على دفع مليارين 7,5 ملايين يورو لبضع عشرات من هؤلاء النساء اللواتي ما زلن على قيد الحياة، وبالمناسبة، فهن غير راضيات عن قيمة التعويضات، في حين لم يحصل ملايين الضحايا والمشردين في العراق على أكثر من اعتذار من السيد توني بلير، أما ملايين الضحايا والمشردين في سورية، فلا يتطلعون إلى تعويضات، بقدر ما يتطلعون إلى وقف المجازر التي يرتكبها النظام الأسدي الطائفي المجرم في حقهم كل يوم.
أما مجازر دولة الاحتلال، وسلبها حق الشعب الفلسطيني المشروع في بلاده وخيراتها، بل حقه في الوجود، فحدث عن هذا كله ولا حرج، في مقابل صمت، بل تواطؤ عالمي.
ولكم يصاب المرء بخيبة الأمل من عدالة دول العالم التي طالما صدعتنا بالحديث عن حقوق الإنسان، وكأنهم يعنون إنسانا آخر غير الإنسان العربي أو المسلم، فإذا تذكروه، اتخذوا منه أداة لإشعال القلاقل والفتن في بلاده بدعوى حقوق الإنسان.
ولكم يملأني الاعتزاز ببلادنا كلما تجدد هذا المشهد واستحضرت موقفنا الأخلاقي الذي كان أشبه بصفعة على وجه العالم وكلمة حق في وجه منطقه الجائر، يوم أعلنت السعودية رفضها شغل مقعد غير دائم من مقاعد مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة بعد وقوع الاختيار عليها لتشغل المقعد للمرة الأولى في تاريخها.
وعللت خارجيتنا آنذاك اعتذار المملكة بـازدواجية المعايير في المجلس وفشله، خصوصا في حل القضية الفلسطينية والنزاع السوري، وجعل الشرق الأوسط خاليا من أسلحة الدمار الشامل.
كما لم تنس الخارجية في بيانها آنذاك بقاء القضية الفلسطينية دون حل عادل ودائم لخمسة وستين عاما أيضا شددت الخارجية السعودية على أن السماح للنظام الحاكم في سورية بقتل شعبه وإحراقه بالسلاح الكيمياوي على مرأى ومسمع من العالم أجمع، ودون مواجهة أي عقوبات رادعة، دليل ساطع وبرهان دافع على عجز مجلس الأمن عن أداء واجباته وتحمل مسؤولياته.
وأتصور أن السعودية بهذا البيان نأت بنفسها عن أن تكون شريكا فيما تتعرض له شعوبنا في فلسطين وسورية من جرائم حرب في حال عضويتها في مجلس يفترض أن لديه صلاحيات تخوله وقف هذه الجرائم، ولا يتقدم نحو هذا خطوة، وهذا ببساطة لأن شؤون هذه الشعوب لا تعني دول أصحاب العضوية الدائمة، أو أن لديهم مصالح في بقاء الحال على ما هي عليه، أو لديهم صفقة مع هذه الأنظمة سواء الإسرائيلي أو السوري الذي أصبح أشد من الإسرائيلي وطأة وتنكيلاً بإخوتنا في سورية.
لذا، كان خروج المملكة من مجلس أصبح مطبخا للمؤامرات الدولية وتمرير القرارات حسب الهوى والمصلحة، أكرم لها أمام شعبها، وأيضا أمام شعوب الأمة الإسلامية التي تكبر بلادنا وتضعها في مكان الزعامة للعالم الإسلامي.
إننا، وإن كنا نشعر بقلة الحيلة إزاء هذا الجور الصارخ الذي يقع على إخوتنا في فلسطين والعراق وسورية، لنجد كثيرا من العزاء في موقف بلادنا الأخلاقي المعلن الذي ينجينا جميعا من وصمة الشراكة في الصمت على هذه الجرائم.