أرى أن هذه السلوكيات الاجتماعية مبالغ فيها، وقد لا نسلم من عواقبها، لأننا نعيش في نعمة عظيمة، ويجب علينا أن نحمد الله عليها فبالشكر تدوم النعم، وعلينا أن نكون واقعيين في كثير من التصرفات
في الأيام القليلة الماضية كان هناك تداول مكثف في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة لبعض المظاهر المتعلقة بالكرم والضيافة المبالغ فيها إلى حد كبير، وهذه الحالات التي تم تداولها لا يمكن تعميمها على المجتمع السعودي، ولا تعبّر إلا عمن قام بها، وحقيقة الأمر أن هذه الحالات كان فيها مبالغة كبيرة، وقد يعتقد من قام بها أنها من أصول الكرم وحسن الضيافة والرغبة في إكرام الضيف بشكل متميز ومختلف، وهم لا يدركون أنهم قد وقعوا في مخالفة دينية واجتماعية وسلوكية، وهذه التصرفات ليست من مظاهر الكرم بل هي نوع من أنواع التبذير والبذخ المذموم، وقد تحدث حول هذا الموضوع كثير من رجال الدين الفضلاء، وأوضحوا ما يترتب على هذه التصرفات التي لا يقبلها الدين والعقل.
ومن مظاهر إكرام الضيف المبالغ فيها كما وردت في وسائل التواصل الاجتماعي غسل أيادي الضيوف بأغلى أنواع دهن العود الذي لا يحصل عليه الكثير من أفراد المجتمع بسهولة، فإذا كان هذا حال الغسيل بعد الوجبة التي تقدم للضيف، فالوليمة التي يتم تقديمها قد تكون في مستويات أعلى من البذخ والتبذير، والمعروف أن الطيب (دهن العود أو غيره) يقدم بعدما يغسل الضيف يده ويجففها، ويوضع على اليد عدد محدود من القطرات، ولا يتم استعماله نيابة عن الماء في غسل اليد، فهناك أناس يتمنون أن يشموا (ريحة) دهن العود فقط، وليس غسل اليد به، فلن يكون بديلا عن الماء في هذه الحالة، والمثال الآخر على تحويل الكرم إلى البذخ والتبذير هو ما يقوم به البعض من ذبح العديد من الذبائح ولا يجلس على الذبيحة عند تقديمها إلا شخص واحد، وهذا من وجهة نظري قمة البذخ، والتبذير حتى وإن كانت جزءا من العادات فهي من العادات التي لم ينزل الله بها من سلطان، ولا أعرف ما الهدف الحقيقي من وراء جلوس الضيف وحده على المائدة، ولا يشاركه أناس آخرون، وكيف يكون حال هذا الضيف وهو يأكل لوحده، وكأنه منبوذ. أما المثال الآخر على المبالغة في مجتمعنا فيتمثل في تقديم بعض الضيوف هدية للمضيف عبارة عن كيس من البن، وكيس آخر من الهيل يضعه في وسط المجلس، ويقوم بعمل فتحة جانبية كبيرة ليرى الناس محتواه، وهذا فيه مبالغة، وحب الظهور، ومن العادات التي ينبذها المجتمع ولا يقرها ولا يوافق عليها، وليس هناك أهداف نبيلة يحققها مثل ذلك الاستعراض، فقد تفتح هذه السلوكيات أبوابا للمنافسة غير المقبولة، وقد يتبناها من لا يستطيع تنفيذها من ناحية مادية، وفي بعض المناسبات الاجتماعية يتم تشغيل بعض الشيلات الغنائية التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام بشكل كبير بعد الانتهاء من الغداء أو العشاء، ويقوم الحضور بالرقص عليها من دون مناسبة تذكر، ولكنها أصبحت جزءا من متطلبات إكرام الضيف، والمتوقع بعد تناول الوجبة أن يحمد الله الذي أنعم علينا بهذه النعم بدلا من الاستماع للشيلات والرقص.
وهنا أرى أن هذه السلوكيات الاجتماعية مبالغ فيها، وقد لا نسلم من عواقبها، لأننا نعيش في نعمة عظيمة، ويجب علينا أن نحمد الله عليها، فبالشكر تدوم النعم، وعلينا أن نكون واقعيين في كثير من التصرفات، وأن نبتعد عن مظاهر البذخ والتبذير التي نشاهدها بين الحين والآخر، مع أن الرأي الشرعي في مثل هذه الحالات واضح وجلي.
الجانب الآخر في هذا المجال هو أننا نعيش في هذا الكون وكأننا وحدنا، ولا يشاركنا فيه أحد، ولا نشعر بما يدور حولنا من جميع الجهات جنوبا، وشمالا، وشرقا، وغربا، فهناك أناس يموتون من الجوع نتيجة للحصار المفروض عليهم من حكوماتهم المستبدة، وتمنع وصول المساعدات الإنسانية التي تقدمها الجهات الخيرية لهم، وهناك مجتمعات أخرى يموت أفرادها جوعا لعدم توافر الغذاء والدواء لهم، وصور عينات من هؤلاء الضحايا تعرضها وسائل الإعلام المختلفة، ولا تؤثر فينا، بل نستمر في البذخ والتبذير الذي نعتقد أنه يعبّر عن الكرم، وما هو بكرم.
ونتيجة لتلك السلوكيات المبالغ فيها نحن بحاجة لقيام أئمة المساجد وخطبائها بمناقشة هذه الحالات من كافة جوانبها التي آمل ألا تستمر حتى تصل إلى مستوى الظاهرة، كما يتوقع من وسائل الإعلام المختلفة تخصيص برامج وتحقيقات صحفية موجهة حتى لا تتحوّل ظاهرة الكرم إلى بذخ وتبذير، فقد يأتي يوم يبحث فيه من قام بهذه التصرفات عن لقمة العيش فلا يجدها، نحمد الله على النعم التي تعيشها هذه البلاد، ونسأل الله أن يعيننا على شكرها.