هناك شخصيات من أعلام الحنابلة خالفت السائد في المذهب، وانفتحت على علوم الكلام والمنطق والفلسفة والنجوم، وبرعت فيها مثلما برعت في الجدل والمناظرة
من المعلوم عن السادة الحنابلة أنهم قوم أهل أثر، شديدو التمسك بالأحاديث وعلومها دراية ورواية، مباينون لعلم الكلام والمنطق الصوري والفلسفة، بل محاربون لتلك العلوم بل النظر فيها، ولبعضهم في النهي عن النظر فيها مؤلفات ورسائل.
يشيع في الثقافة العامة أن الحنبلي متشدد في الدين، وأنه غير واسع الأفق، حتى يقال لمن ظهر منه معارضة لأمر من الأمور: لا تكن حنبليا، لكن هذا الانطباع ليس انطباعا صحيحا، أو على الأقل: ليس انطباعا صحيحا في الجملة.
هناك شخصيات من أعلام الحنابلة خالفت السائد في المذهب، وانفتحت على علم المنطق والفلسفة والنجوم، وبرعت فيها. بعض تلك الشخصيات تعلمت الفلسفة والمنطق من باب (نرد على القوم بأدلتهم وننقض عليهم منهجهم بمنهجهم)، وهذا ما تجلى كل التجلي في (شيخ الإسلام) تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني، فقد نظر في علم الكلام والمنطق والفلسفة نظرا عميقا، وفهم أقوال كل طائفة من طوائف المسلمين في علم الكلام، وأدرك مآلات آرائهم في المسائل التي بحثها، وكتب مؤلفات طويلة الذيل، بعيدة النيل في الرد على المخالفين، وحسبك بكتابه الشهير بيان تلبيس الجهمية، ثم درء تعارض العقل والنقل، ومنهاج السنة النبوية؛ فقد ملأها بأقوال الفلاسفة وناقشها بنفس فلسفي كأنه فيلسوف، يستخدم أدلتهم ذاتها بتمكن واقتدار، ويرجح بعض أقوالهم على بعض، ويرد بعض أقوالهم ببعض، ويسير في المنهج المعرفي بطريقة الفلاسفة ليقرر ما يريد تقريره، وربما يوافق بعضهم فيما يذهب إليه في بعض المسائل كابن رشد وأبي البركات البغدادي.
أما كتابه الشهير (الرد على المنطقيين)؛ فكتاب معرفي مدهش، إذ عمد إلى ركني علم المنطق: التصور والتصديق، فاعترض على كليهما اعتراضا عقليا؛ فنقض أدلة الاستدلال الفلسفية (المنطق الصوري)، أي أنه قام بنقد العقل الفلسفي معرفيا أو فلنقل بالأسلوب الحديث: أبستمولوجيا، فكان -بجدارة- الناقد الكبير للمنطق الصوري في الإسلام. هناك حنابلة آخرون غير شيخ الإسلام تعاطوا الفلسفة والمنطق وتعلموهما، وبعضهم تأثر بهما، فمنهم:
العلامة المحدث اللغوي النحوي الشهير ابن الخشاب، فقد ذكروا عنه أنه تعلم المنطق والفلسفة والحساب والهندسة. وأنه كان لا يحافظ على قاموس العلم والمشيخة، أي إنه لم يكن يبالي بتزمت المشايخ وتوقرهم، فكان يلعب بالشطرنج على قارعة الطريق مع العوام، ويمازح السفهاء، ويقف في الشوارع على حلق المشعبذين وأصحاب اللهو، واللعابين بالقرود والذباب من غير مبالاة. وإذا عوتب على ذلك يقول: إنه يندر منهم نوادر لا يكون أحسن ولا ألطف منها، ومع ذلك فكان لا يخلو كمه من كتب العلم. وكان مع ميله إلى العوام والسفهاء ومجالستهم يترفع عن مجالسة أصحاب المناصب والأغنياء! أي إن هذا المحدث المتفلسف مثقف حنبلي شعبوي. ولابن الخشاب كتب شهيرة مطبوعة ومتداولة. وتوفي عام (567هـ).
هناك شخصية أخرى من الحنابلة تعاطت علم الكلام والمنطق والفلسفة، وبرعت في الجدل والمناظرة، ذاكم هو صدقة بن الحسين بن الحسن بن بختيار بن الحماد البغدادي. كان فقيها محدثا، متكلما، شاعرا، مؤرخا، ذكروا عنه أنه كانت له شكوك وحيرة، وأنه أثرت فيه تلك العلوم القديمة (أي الفلسفة) فجعلته ينطق بما يدل على تذبذب وتردد. كان إمام مسجد في بغداد، يصلي ويأتم به الناس ويعلم الطلاب وينسخ الكتب حتى توفي عام (573هـ). ومن الحنابلة الذين تعاطوا الفلسفة الفقيه والمؤرخ عبيدالله بن علي بن نصر بن حمرة التيمي. ذكر المترجمون عنه أنه قرأ الطب والمنطق والفلسفة وعلوم الأوائل، وبرع في الفقه، وروى الحديث. لكن ذكروا عنه أيضا أنه كان سيئ السيرة، متهما في الرواية. توفي (599هـ). ومن الحنابلة الذين تعلموا المنطق والفلسفة واحد من أفراد أسرة ابن تيمية هو عبدالحليم بن محمد بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية، توفي (603هـ). ومنهم إسماعيل بن علي بن حسين البغدادي الأزجي المأموني، ذكر عنه ابنه في معرض المدح أنه قرأ الفلسفة والمنطق على يد طبيب نصراني اسمه ابن مرقش، كان يتردد عليه في الكنيسة فيتتلمذ له. ذكروا أنه كان يطعن على أهل الحديث أنهم لا يعلمون العلوم العقلية، وينسبهم إلى عدم التعمق والتحقيق، وأنهم يكتفون بظاهر اللفظ. توفي (610هـ). ومن مشاهير الحنابلة الذين تورطوا في المنطق والفلسفة: عبدالسلام بن عبدالوهاب بن عبدالقادر الجيلاني. قالوا عنه إنه كان عارفا بالمنطق، والفلسفة، والتنجيم، وبسبب ذلك نسب إلى عقيدة الأوائل، جرت له محنة بسبب إقباله على الفلسفة وعلم النجوم، وكبسوا داره فوجدوا فيه كتاب إخوان الصفا، وكتب التنجيم، ووجدوا بخطه عبارات فيها مناجاة لبعض الكواكب! فأحرقوا كتبه وسجنوه، ولم يفرج عنه حتى شهد ألا إله إلا الله وتبرأ مما وقع فيه. توفي (611هـ). ومن الحنابلة الذين خطفتهم الفلسفة محمد بن محمود بن أحمد الشيباني، وقع أسيرا بيد التتار فخلصه نصير الدين الطوسي (الفيلسوف الشيعي الاثنا عشري الشهير) المتفنن في العلوم العقلية، وكان له صفيا وصاحبا ملازما فتعلم منه الحنبلي علم المنطق والفلسفة والنجوم، وكان ظريفا متواضعا، توفي (723هـ). أي قبل وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية بخمس سنوات.
أولئك حنابلة انفتحوا على الفلسفة والمنطق وعلوم الأوائل، مخالفين الخط السائد عند السادة الحنابلة، فليس الحنابلة متشابهين، فهم بشر من البشر، فيهم مختلفون ومتمردون ومتفردون في اختياراتهم الفكرية.