انتشر مقطع يعرض مشهداً لبعض شباب الوطن العاملين في الشركة السعودية للكهرباء، وهم ينقذون هراً علق في (سلك هوائي معلق) بواسطة إحدى الرافعات. تداول الناس المقطع وغلب على المتداولين النظر إلى هذا العمل باستحسان، بل إني أعرف من حرص على رؤية أطفاله للمقطع لأغراض تربوية نبيلة. ولكن ما أدهشني أن هناك فئة قابلت هذا السلوك بالسخرية والانتقاد، كما أن هناك من أقحم مفهوم الأولويات عند حديثه عن هذا المقطع.
إن وجود مثل هذه النظرة لدى فئة من المجتمع تعد في نظري مؤشراً لأمرٍ أخطر، بل ربما يسهم أخذ هذا المؤشر على محمل الجد في الكشف عن بعض ملامح أزمة أخلاقية لعل لها دورا ظاهرا في الكثير من إخفاقات الأمة وانتكاساتها المعاصرة.
(الروح الائتمانية) شيء من أبرز سمات النظرة الإسلامية الأصيلة للعالم. وقوام هذه الروح هو الرؤية المسؤولة لكل ما في الطبيعة من أشياء لا سيما تلك التي تميزت باحتوائها على الحياة، فنحن لا نملك هذا الكوكب بل مؤتمنون عليه ومحاسبون بما تقتضيه هذه الأمانة. فالأصل هو الاعتراف بحق الحياة لجميع الكائنات والعمل على دعم هذا الحق ولا استثناء لذلك إلا ما تقاطع مع ضرورة بقاء الجنس البشري لا أكثر.
تحدث نوبواكي نوتاهارا مؤلف كتاب (العرب في عيون يابانية) عن إحدى مشاهداته في بلد عربي؛ فذكر أنه رأى صبياً يعذب طائراً صغيراً بواسطة حبل يجذبه به بعد أن ربطه على عنقه، في حين أن أحداً من المارة لم يتوقف لينهى الصبي عن هذا السلوك أو يحاول إنقاذ هذا الطائر من قبضته!
يرى نوتاهارا أن هذا خلل أخلاقي، فيقول إن بيئة كهذه تشجع على نشوء هذا الصبي حاملاً لمبررات التعدي على الضعفاء، فمجرد القدرة على التعامل بقسوة مع أحد كافٍ لتبرير ذلك التعامل عند من ينشأ في بيئة أخلاقية كهذه.
لعل أغلب من سخروا من تصرف منقذي الهرة هم حاملون لبذور ذلك الخلل الذي تحدث عنه نوتاهارا. فالأساس الذي تقوم عليه القاعدة الأخلاقية هو أن القيمة شيء غير قابل للتجزئة، فالرحمة لا تأخذ مسوغات إنزالها من ذات الكائن المستهدف بالرحمة أو نوعه بل من الإيمان بها كطريقة للحياة وكتعبير عن الرقي الإنساني.
النظر إلى قيمة الرحمة بمشروطيات مقحمة عليها كفيل بقطع دائرة التراحم في المجتمعات إذ إنها دائرة تتغذى على تفشي هذه القيمة بين جميع طبقات المجتمع، ولعل في تكامل تلك الدائرة سبيل تحقيق الحديث النبوي (الراحمون يرحمهم الله).
من هنا نفهم المغالطة في سوء استخدام مفهوم الأولويات عند الكلام عن القيم الأخلاقية الأصلية، فالكلام عن أولوية الإنسان على الحيوان بالإحسان تكون معقولة في موقف يساء إلى الإنسان فيه، ولكنها تكون فجة جداً في موقف يرحم فيه الحيوان. الحقيقة على الأرجح أن في ذلك دعوة ضمنية إلى ترك النوعين من الإحسان، فالصادح بحجة الأولويات لن يعدم سلما من الأولويات يتوقف بمقتضى درجاته عن الإحسان إلى الجميع ما عدا نفسه.
عرفت هذه الأمة في عصور سابقة أوقافاً خيرية كانت مخصصة لرعاية الحيوانات والبهائم وتطبيبها، بل إن منها ما كان متقدما في التخصص كالأوقاف التي خصصت للخيول المسنة، أو القطط العمياء، أو التي أقيمت لعلاج الكلاب الضالة. وبإمكان الراصد الموضوعي أن يتتبع العلاقة بين مظاهر كهذه وبين المستوى الحضاري الذي كانت عليه الأمة أثناء ذلك، ليرى كيف يسقط التهكم المستند على فكرة الأولويات أمامه إزاء حجة إحصائية بينة.
سرتني مشاهدة ما فعله هؤلاء الشباب ولعل في ذلك عزاء لنا، بعد مشاهدات مؤسفة أخرى نقلتها البرامج ذاتها لشباب يعذبون بعض الحيوانات وآخرين يفتخرون بصيدهم الجائر المتعدي على الطبيعة والأخلاق. وسرني أيضا ما عرفته من أن عمل أولئك الشباب قد قوبل بالتقدير من إدارة الشركة التي يعملون بها ونشر مع الإشادة في مطبوعاتها، وفي هذا إشارة مطمئنة إلى أن من ينظرون إلى عمل موظفيهم من خلال الروح الائتمانية التي لا تجزئ القيم ما زال لهم وجود بيننا.
ختاماً أقول: ليس هناك أجمل من بشائر رسل الحياة في عالم يضج برسل الموت.