أعطت وزارة الخدمة المدنية مرونة أكثر للجهات الحكومية في اختيار الموظفين وتقويم الأداء الوظيفي، والترقيات وتطبيق اللوائح والإجراءات الوظيفية، فكانت النتيجة عكس المتوقع ودون الطموح
تضطلع الجهات الحكومية بالدور الأكبر في إدارة التنمية، لذا فإن الموظفين في هذه الجهات هم الذين يلعبون الدور الأكبر في تخطيط وتنفيذ برامج ومشاريع التنمية، وبالتالي فإن نوعية هؤلاء الموظفين ومستواهم التأهيلي والتدريبي ومقدار إنجازاتهم وإنتاجيتهم تتحكم إلى حد كبير في تحديد مخرجات برامج ومشاريع التنمية، ومدى تحقيق أهدافها.
وعلى هذا الأساس، فإن حسن اختيار الموظفين على كل المستويات الإدارية وفي مختلف الوظائف الحكومية، يعدّ مطلبا أساسيا لتحقيق أهداف التنمية، وهنا يأتي دور وزارة الخدمة المدنية وأنظمتها ولوائحها، من أجل استقطاب واختيار الموظفين الأكفاء وإفساح المجال أمامهم للاضطلاع بمسؤولياتهم ومهامهم الموكلة إليهم بكفاءة وفاعلية، مع توفير البيئة الإدارية اللازمة للإنتاجية والإبداع وتطوير الذات، وتوفير القدرة الإدارية اللازمة لتنفيذ خطط وبرامج التنمية، فتكون الأنظمة واللوائح متوجهة إلى تحقيق تلك الغايات عن طريق الترقية والحوافز والتقويم والتدريب وغيرها.
والمتتبع لواقع الموظفين في الجهات الحكومية، يجد بعض الظواهر السلبية مثل اللامبالاة والتسيب وضعف الإنتاجية، إذ تؤكد إحدى الدراسات الحديثة في هذا المجال كثرة غياب الموظفين في القطاع الحكومي، وترك مكان العمل دون عذر، أو الانشغال بأعمال غير مهمة وهامشية خلال وقت الدوام الرسمي، والنتيجة المؤسفة لذلك، انخفاض معدلات الإنتاجية، وتردي مستويات الإنجاز، والبطء في تنفيذ القرارات، والتكاسل في إنجاز الأعمال، وليس هذا وحسب، بل إن كثيرا من الجهات الحكومية تعاني من التضخم الوظيفي، نتيجة مغالاة تلك الجهات في تقدير احتياجاتها من الوظائف، الأمر الذي أدى إلى وجود جهاز وظيفي ضخم في عدده، وضعيفٍ في إنتاجيته وكفاءته!
إضافة إلى ما سبق، هناك قائمة طويلة من السلبيات التي تعاني منها الجهات الحكومية عموما من أبرزها: إهدار المال العام والإسراف في الإنفاق، والتهرب من المسؤولية، وضعف الثقافة المهنية، وسوء قنوات الاتصال، ونقص المعلومات والبيانات، وانتشار ظاهرة اللجان، وعدم وجود خطوط واضحة للسلطة والمسؤولية، وعدم وجود تحديد دقيق لمهام كل وظيفة، والازدواجية والتكرار في أداء المهام، وانعدام التنسيق بين الإدارات والأقسام في الجهة الواحدة، وأخيرا ضعف الرقابة والإشراف.
نتيجة لتلك العوامل السابقة، لم يحدث تغيير أو تطوير في طبيعة الإدارة العامة، ما عدا التوسع الهائل فيما تقوم به الجهات الحكومية من أنشطة ومهام، نتيجة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وبعبارة أخرى، أصبح هناك نمو في الكيان الإداري إلى درجة التضخم مع تجميد الموظفين المبدعين والمؤهلين، وهذا النمو لم يقابله نمو في القدرة الإدارية، وبالتالي عدم توافر القدر الكافي من الكفاءة الإدارية القادرة على إدارة البرامج والمشاريع الحكومية بنجاح، الأمر الذي أثر بالسلب على تحقيق أهداف التنمية.
قد يتساءل القارئ الكريم عن أسباب ضعف الموظف الحكومي وترهل الجهات الحكومية وضعف القدرة الإدارية بها؟ وما الحلول الممكنة لمعالجة تلك الأسباب؟
في الحقيقة، هناك عوامل عدة ذات اتجاهات اجتماعية وثقافية وتعليمية وتدريبية، وأسباب كثيرة للضعف الإداري في الجهات الحكومية، إلا أن أصابع الاتهام دائما تتجه إلى أنظمة الخدمة المدنية ولوائحها، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن أنظمة الخدمة المدنية، على الرغم من أنها اتخذت أنماطا قريبة من الأنماط الموجودة في الدول المتقدمة، كما تضمنت مفاهيم حديثة للوظيفة الحكومية، إلا أنه لم يتم تطبيقها بفعالية في واقع الجهات الحكومية، وذلك بسبب الطابع الرقابي القانوني، والمركزية الشديدة لوزارة الخدمة المدنية.
ولهذا، أوصت تلك الدراسات بإعطاء مرونة أكثر للجهات الحكومية، والاتجاه نحو اللامركزية في تطبيق المفاهيم والإجراءات الوظيفية بحيث تؤدي بصورة أفضل إلى تحقيق مبدأ الجدارة والمساواة، ورفع الكفاية الإنتاجية، وتحسين الخدمات الحكومية، حيث تتوافر مزايا عدة، أهمها: قدرة إدارات شؤون الموظفين في الجهات الحكومية على تطبيق تلك المفاهيم والإجراءات، وفق إطار عام وخطوط عريضة ترسمها وزارة الخدمة المدنية.
وبالفعل، قامت وزارة الخدمة المدنية بإعطاء مرونة أكثر للجهات الحكومية في عمليات التوظيف، واختيار الموظفين، وكذلك تقويم الأداء الوظيفي والترقيات، وفي تطبيق كل اللوائح والإجراءات الوظيفية، فكانت النتيجة عكس المتوقع ودون الطموح والآمال، بل زاد الأمر سوءا، فأصبح التوظيف بناءً على الواسطات والمحسوبيات، والترقيات بناءً على الولاء والطاعة العمياء للرئيس الإداري، والضغط على الأكفاء والمؤهلين لترك الوظيفة الحكومية، فزاد التسرب الوظيفي، وتولي غير المختصين وغير الأكفاء للمناصب الإدارية، إضافة إلى التلاعب بلوائح الخدمة المدنية، مثل لائحة تفويض الصلاحيات، ولائحة التكليف ولائحة النقل..إلخ.
نتيجة لذلك، أصبحت الجهات الحكومية أكثر ضعفا، وأكثر ترهلا من السابق، فتعالت بعض الأصوات مطالبة بالمركزية، وإرجاع الوضع السابق كما كان عليه، تحت الإشراف المباشر لوزارة الخدمة المدنية. فأين الخلل يا ترى؟
الخلل في رأيي يتمثل في أن إدارات شؤون الموظفين في الأساس ضعيفة إداريا، وتفتقر إلى القدرات الإدارية الموجودة في وزارة الخدمة المدنية، وشؤون الموظفين في البيروقراطية عموما تعدّ من الإدارات التي لا يحتاج العمل فيها إلى تأهيل متخصص، لذلك يتكدس فيها الموظفون الكتابيون، ونادرا ما يوجد فيها متخصصون مؤهلون في الموارد البشرية قادرون على تصنيف الوظائف، أو إعداد الاختبارات والمقابلات، أو إعداد برامج لاستقطاب الكفاءات المؤهلة والمحافظة عليها، لذا، تم إساءة تلك المرونة واللامركزية المعطى لها فظهرت تلك السلبيات التي أثرت على مشاريع التنمية وعلى الخدمات الحكومية.
والأسئلة المطروحة هنا: كيف تتم المساءلة في اللامركزية الإدارية؟ وكيف تتم الرقابة عليها؟ وكيف يتم تأهيل الجهات الحكومية في مجال الموارد البشرية وشؤون الموظفين؟. فالخدمة المدنية أهم مرتكزات ومحاور التنمية الرئيسية.