تراجع دخل النفط هو فرصة لإحداث التحول الوطني المطلوب من اقتصاد ريعي يعتمد على دخل النفط اعتمادا كليا إلى اقتصاد يعتمد على المعرفة ويعد آخر مراحل الإدارة الاقتصادية
وضعت ميزانية المملكة لعام 2016 التي صدرت الإثنين الماضي (28 ديسمبر) بعض النقاط على الحروف في برنامج التحول الاقتصادي، وفي معالم السياسة الاقتصادية التي تضمنها الخطاب السنوي لخادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، في افتتاح دورة مجلس الشورى في يوم 23 ديسمبر الماضي.
تم إعداد ميزانية 2016 في ظل توقعات متشائمة لوضع أسعار البترول، التي انهارت خلال العامين الماضيين، فوصل سعر البرميل خلال الأسبوع الذي أُعلنت فيه الميزانية إلى نحو 37 دولاراً. وبناءً على ذلك، تم تقدير دخل الحكومة من الموارد النفطية وغير النفطية. قدرت الميزانية إجمالي الإيرادات لعام بنحو 514 مليار ريال، وهو ما يعادل نحو نصف المعدل السنوي للإيرادات الفعلية خلال السنوات الخمس الماضية.
وعلى الرغم من هذا الانخفاض الحاد في الإيرادات المتوقعة، فإن المصروفات المتوقعة في تقديرات ميزانية عام 2016 ظلت مرتفعة، نحو 840 مليار ريال، وهو ما يفوق متوسط الميزانية التقديرية للمصروفات خلال السنوات الخمس الماضية الذي بلغ نحو 760 ملياراً، ولكنه أقل من المعدل السنوي للإنفاق الفعلي خلال تلك السنوات الذي تجاوز في المتوسط (950) مليار ريال.
ووفقاً لأرقام الميزانية، خُصص نحو (213) مليار ريال، أي 25 بالمئة من المصروفات، للإنفاق العسكري والأمني خلال عام 2016. في حين خُصص نحو (191) مليار ريال (23 بالمئة) من المصروفات للتعليم والتدريب والقوى العاملة، وخصص نحو (136) مليار ريال ( 15 بالمئة) للخدمات الصحية والاجتماعية والبلدية، ونحو (101) مليار ريال (13 بالمئة) للموارد الاقتصادية والبنية التحتية والنقل.
وبالإضافة إلى هذه المبالغ المخصصة في ميزانية 2016، تم تخصيص مبلغ إضافي (183 مليار ريال) يمكن اعتباره ميزانية فرعية، إذ إن صرفه، كليا أو جزئيا، سيعتمد على التغيرات في أسعار البترول.
ينصح صندوق النقد الدولي، والمحاسبون، وبعض الاقتصاديين، بتقليص الإنفاق حين تنخفض الإيرادات، بل يطالب بعض الكتاب في المملكة بميزانية صِفرية، ولكن مثل هذه الوصفات هي الطريق إلى ركود اقتصادي لا تُحمد عقباه، خاصة في ظل وجود معدلات مرتفعة من البطالة، وفي ظل الاحتياجات الملحة لتطوير الخدمات والبنية التحتية، من قطارات ومطارات وطرق، ومستشفيات ومدارس.
ولم تأخذ الدولة بهذه النصائح، من حسن الحظ، بل حافظت على مستو عالٍ من الإنفاق كما أشرتُ. وبالطبع فإن المحافظة على مستويات مرتفعة من الإنفاق الحكومي في ظل انخفاض الإيرادات سيحدث عجزاً في الميزانية. ولكن عجز الميزانية ليس بالأمر الخطير، إذا أُحسنت إدارته.
وتقدر ميزانية هذا العام، العجز المالي بنحو (326) مليار ريال، هو الفرق بين الإيرادات التقديرية (514 مليارا) والمصروفات التقديرية (840 مليارا). ويعادل هذا العجزُ نسبة 64 % من حجم الإيرادات، و39 % من حجم المصروفات. كما يساوى 13 % من الناتج المحلي الإجمالي. وهي كلها نسب مرتفعة نسبياً، ولكنها تقديرية ويمكن أن تتغير بشكل جوهري، في حالات ثلاث. الأولى: في حال ارتفعت أسعار النفط، والثانية في حال تحققت موارد غير نفطية أعلى مما هو متوقع، أما الحالة الثالثة فهي إذا لم يتم صرف الميزانية الفرعية التي أشرتُ إليها، أي مبلغ (183) مليار ريال التي يتوقف الصرف منها على وضع السوق البترولية. أي أن تقدير العجز في الميزانية مبني على أسوأ الاحتمالات. ومع ذلك وكما أشرتُ فإن عجز الميزانية حين يبلغ هذه المعدلات قد يكون ضرورياً على المدى القصير، لتفادي حدوث تراجع اقتصادي كبير.
ويمكن النظر إلى تراجع دخل النفط كفرصة لإحداث التحول الوطني المطلوب من اقتصاد ريعي يعتمد على دخل النفط اعتماداً كلياً إلى اقتصاد يعتمد على المعرفة، وكان أستاذنا الاقتصادي النمساوي المخضرم (فريتز ماخلب) يعتبره آخر مراحل الإدارة الاقتصادية، حيث تتميز مرحلة اقتصاد المعرفة بثورات تكنولوجية جذرية ومتعاقبة، وتنافس عالمي نحو الابتكار، ومنتجات وعمليات إنتاجية جديدة، واعتماد متنام على المعرفة من خلال تطوير علاقة حميمة بين البحث العلمي والمختبرات ومراكز الأبحاث والابتكار من جهة، وقطاع الأعمال والصناعة والمال من جهة أخرى.
وفي اقتصاد المعرفة، تزداد الحاجة إلى مهارات متخصصة، لا تقتصر على المعرفة السطحية باستخدامات الكمبيوتر وطرق التعامل مع المعلومات ونماذج المحاكاة والتوقعات. بل تحتاج إلى تطوير القدرات والابتكار لتحقيق مزيد من الإنتاجية واستغلال أفضل للموارد الطبيعية والبشرية. هذا يعني استثماراً أكبر في توفير قوى عاملة مدربة تدريبا عاليا في مجالات الهندسة والكيمياء والأحياء والرياضيات وغيرها. ونظراً للطلب المتنامي عالمياً على هذه المهن والمهارات فإن تطويرها محلياً يصبح ضرورة ملحة، من خلال تطوير تجمعات clusters تعمل على تكامل الصناعات المختلفة وربطها مع الجامعات ومراكز الأبحاث.
ولدى المملكة العربية السعودية الكثير من مقومات اقتصاد المعرفة، ولكن ما نحتاج إليه هو تطوير تلك المقومات، خاصة ما يتعلق بتطوير المهارات البشرية. كما نحتاج إلى إدارة هذا الاقتصاد على النحو المطلوب، وهو ما يسعى برنامج التحول الوطني إلى تحقيقه.