النقد ضرورة وليس ترفا، ولولا النقد لما تطوّر العقل الإنساني، ولما تقدّمت البشرية في علم ولا فن ولا سياسة، إذ ليس النقد إلا اكتشاف خلل ليُسَد، أو التنبّه إلى عيب فيُستصلَح

الناقد في اللغة هو (الصيرفي) الخبير الذي يميز الدرهم الجيد من الدرهم الرديء (المغشوش)، ثم استعير هذا اللفظ من الاستعمال المادّي إلى الاستعمال المعنوي، وانتقل من عالَم الدراهم والدنانير إلى عالَم الأفكار والأقاويل والآراء، والآداب والفنون؛ فللكتابة الأدبية شعرا ونثرا نقّادها، وللفن غناءً وتلحينًا وأداءً ورسمًا وتمثيلاً ونحتًا نقّاده، ولكل مجال نقّاده الخبراء الذين يرجع إليهم للتمييز فيه بين الأجود والجيّد والأقل جودة والرديء.
وكما يطلق ناقد الدراهم حكمَه على الدرهم بالجودة أوعدمها؛ كذلك الناقد في الفكر يطلق حكمه على الفكرة بالجودة أوعدمها. وكما للناقد معاييره التي يجعلها ميزانًا لأحكامه؛ كذلك الناقد الفكري له معاييره التي يجعلها ميزانًا لأحكامه.
غير أن عالَم المادّة المحسوس أسهل جدًا، وأقرب، وأبعد عن الاختلاف من عالم الأفكار المتشعبة، والمعاني الغامضة العويصة، والآراء العميقة؛ ومن هنا كان العمل النقدي في عالَم الفكر مرهقًا أشد الإرهاق لأهله؛ لما فيه من كدّ الذهن، وطول التأمل، وإعمال العقل، لا سيّما إذا طال النقد معايير النقد ذاتها.
ولولا النقد –في كل مجال من تلك المجالات– لما تطوّر العقل الإنساني، ولما تقدّمت البشرية في علم ولا فن ولا سياسة ولا عمل ولا شيء؛ إذ ليس النقد إلا اكتشاف خلل ليُسَدّ، أو التنبّه إلى عيبٍ فيُستصلَح، كما هو علم بما هو جيّد فيُطوّر ويُحسّن بقدر الاستطاعة. إن النقد سببٌ من أسباب الازدهار، ولو أنعمنا النظر لوجدنا أن النقد من صميم ما نقوم به كل يوم؛ فهو يصحبنا في السوق والمطعم والمدرسة والبيت، ولا يمكن التخلّي عنه بحال؛ فما بالكم بعالم الأفكار والكليّات والمطلقات وما به تنهض الأمم وتنتظم به علائق المجتمعات؟
ليس النقد ترفًا من الترف، ولا لغوًا من اللغو، إنه ضرورة من الضرورات التي لا يمكن الاستغناء عنها، وانعدامه يعني التأخر والتخلّف بل الفناء بلا ذرّة من ريب. ومن أنكر هذا فهو ينكر ما يراه بعينيه، ويلمسه بيديه، ويشهده شهود العقل والحس والوجدان.
سلْ كل مكتشفٍ من المكتشفين، ومخترع من المخترعين: كم مرة أعاد التجربة، وكم مرة وجد فيها خللاً تلافاه في كل مرة ليصل بها إلى النهاية المنشودة؟ ثم سل من طوّر اختراعه من بعده: كم حاول وفشل ثم حاول وفشل حتى نجح في التطوير والتحسين؟
سل كل فيلسوف ومفكّر وعالِم خلّد التاريخ اسمه: علام قامت فلسفته وبناؤه الفكري إلا على نقده لأفكار سابقيه ومراجعتها؟ في سلسلة من المفكّرين والفلاسفة والعلماء لا تنتهي ما دام للإنسان عقل، وما بقي له نظَر.
هذا القرآن الكريم كتاب الله المتلوّ في كل صلاة، أليس فيه نقد للأديان الباطلة، والمذاهب الهدّامة، والتقاليد البائسة، والأمراض الاجتماعية المهلِكة؟ ألا يمتلئ جدلاً مع الكافرين والجاحدين المعاندين؟ ألا يأمر المؤمنين بأن يقولوا التي هي أحسن؟ وأن يجادلوا بالتي هي أحسن؟ وأن يستمعوا القول فيتبعوا أحسنَه؟ وأن يدعوا إلى الله بالتي هي أحسن؟ وأن يقولوا للناس حسنًا؟
وهل يمكن أن يعلم العاقل ما هو سيئ وحسن وأحسن بلا معايير نقدية؟ بلا موازين ولا مسطرة يزن بها القول، ويقيس بها الفكرة؟ لعمرك إنه لمحال من المحالات، وهذيان لا يقول به إلا مسلوب العقل.
هذا تراث المسلمين بين يديك، في التفسير والعقائد والحديث والفقه والأصول وغيرها، عالم يردّ على عالِم، ينقد قوله ويبيّن أخطاءه، ويرجّح عليه قولاً آخر، وهذه هي الكتب التي تثقل رفوف المكتبات ملأى بالنقد طيلة العصور السابقة منذ عهد الصحابة وحتى عصرنا؛ تطرح فيها الأفكار المختلفة المدهشة المثيرة، ويناقشها الفقهاء بكل أريحية، بلا حرج، ولا ضيق، إلا عند من لا يحتمل أن يخالفه أحد، ومن يتعصب لقول العالِم كأن قائله معصوم لا يخطئ، فيا ويل من ردّ عليه، ويا ثبورَ من اعترض على ما يقول!
لقد وضع علماء المسلمين قاعدتين جليلتين في النقد: القاعدة الأولى هي العلم، أي العلم بمقصد المنقود، والإحاطة بقوله، وفهمه حق الفهم، واستقراء آرائه في المسألة المبحوثة؛ فلا ينسب له ما لم يقله؛ لتتم محاكمتها على بصيرة لا تعجل فيها ولا نزق.
أما القاعدة الثانية فهي العدل، أو ما يسمّى في عصرنا بـالموضوعية، فلا محل للعاطفة في النقد المعرفي، ولا للدخول في النيّات، ولا مجال للتجريح والإساءة وسوء الأدب؛ فليست هذه أخلاق من يريد الحق، ولا حاجة للحق بعوارِ القولِ، ومستقبَح الألفاظِ.
ولن يكون النقد نزيهًا ولا أمينًا إن لم يقم على الدليل والبرهان، كما لن يكون النقد حقيقيًا ولا مفيدًا حين لا تكون هناك حريّة مكفولة للناقد؛ فإن من مشكلات النقد أنه ثقيل على الأسماع والقلوب، لأنه يواجه الناس في العادة المألوفة، والرواسم (الكليشيهات) المحفوظة، فليس هو موطن ترحيب في مجتمعات أحادية، لا تعرف إلا الرأي الواحد، والمذهب الواحد، والقول الواحد، كأن الله أراد أن يكون الناس نسخًا متشابهة! وبهذا يصبح حال الناقد كما قال (شيخ المعرّة) من قبل:
جَلَوا صارمًا، وتلَوا باطلا.. وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم!
والعياذ بالله من ذلك!