استيقظ الوطن مذعورا يوم الخميس الماضي على فاجعة حريق مستشفى جازان العام الذي ذهب ضحيته 25 شخصا وأصيب فيه 123 آخرون، في حادثة صُنفت بأنها ثالث أسوأ حادثة في منشأة طبية على مستوى العالم. وما فاقم ألم فقد هذه الأرواح والتسبب في تلك الإصابات أنها كانت في مكان يُفترض فيه أن يكون لحماية الأنفس من آلامها وحمايتها من مباغتة الموت، وعليه أن يكون مهيأ بالكامل لهذه المهمة الإنسانية العظيمة؛ تهيئة في الكوادر البشرية والمكانية وما تتطلبه من تجهيزات ومعدات ووسائل للسلامة. لكن ما حدث أثبت العكس خاصة فيما يتعلق بمناسبة المكان من ناحية اشتراطات السلامة والتي ظهر بعضها إما بتقارير قديمة تبين عدم صلاحية المنشأة والملاحظات التي رصدتها إدارة الدفاع المدني منذ سنوات، أو ما نقله شهود العيان مكتوبا أو مرئيا عن الخلل الذي يوجد في ذلك المستشفى، وعلى رأسها إغلاق مخارج الطوارئ بالسلاسل، أو بالواقع الأليم الذي انتهت عليه هذه المأساة من مبنى محترق تماما وأنفس أخذها الموت فجأة حينما هيأ لها الإهمال والفساد طريقه.
في لقاء مع إحدى الممرضات المناوبات في قسم الحضانة تلك الليلة، والتي أسهمت بشجاعتها في إنقاذ عدة أطفال، لفت نظري ما قالته من أن زميلتها تساءلت أكثر من مرة عن وجود رائحة دخان، ثم تفاجأتا بركض حارسات الأمن نحوهما وصراخهن بوجود حريق. لو كان مثل هذا المشهد في مقهى شعبي أو منزل قديم لكان مستساغا، أما أن يكون في مستشفى حكومي يعد وجهة رئيسية تكاد تكون الأولى لمرضى المنطقة فهذه كارثة وخلل كبيرين قد لا تسلم منهما منشآت حكومية وعامة كثيرة في ظل الإهمال والتراخي تجاه تعليمات الأمن والسلامة. فبدلا من أن تنطلق أجهزة الإنذار عند استشعار الدخان في بدايته ويتزامن معها عمل القواطع الكهربائية وشفاطات الدخان والإضاءة البديلة وتعمل رشاشات المياه لإخماد ألسنة النار في حال اشتعالها، بدلا من هذا كله يتصرف العاملون والمرضى ومرافقوهم بصورة فردية أقرب للعشوائية لإنقاذ أنفسهم والهرب من الاحتراق والاختناق دون تدخل محترف أو منافذ طوارئ متاحة.
مع تداعيات هذه الكارثة الإنسانية أفادت بعض المصادر بأن مستشفى جازان العام فشل لثلاث مرات خلال السنتين الماضيتين في تجاوز تقييم المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية سباهي وحصل على تقييم متدن بشكل خاص في مجال الأمن والسلامة. وأن هذا التقييم المنخفض يشمل كافة مستشفيات جازان. وهذا المركز لا توجد لديه صلاحيات إغلاق المستشفى بعد هذه النتائج التي كانت تنذر بكوارث، وليست لديه القوة لتنفيذ هذا، على الرغم من أنه جهة رسمية تمنح شهادات اعتماد الجودة للمنشآت الصحية الخاصة والحكومية في المملكة، وفي هذا دلالة على الفجوة الكبيرة بين مختلف الإدارات الحكومية والهيئات الوطنية وقلة التعاون بينها، وعلى إغفال أهمية تطبيق معايير الجودة في كافة مجالات العمل الحكومي والخاص.
حدثت كارثة مستشفى جازان العام بعد أيام قليلة من إقرار مشروع وطني كبير قدمه ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وعُرف ببرنامج التحول الوطني الذي يعنى في المقام الأول بقياس أداء الأجهزة الحكومية من خلال 551 مؤشر قياس حول 17 مكونا رئيسيا، يأتي في مقدمة هذه الأجهزة الحكومية الصحة والتعليم وهما أهم ما يحتاجه المواطنون في كل دول العالم واللذين من خلالهما يقاس تقدمها. يهدف هذا المشروع الذي أُعد كخطة معتمدة حتى عام 2020 بشكل أساسي، وكما أعلنت ورشة العمل التي رافقته، إلى تقويم أداء الوزراء، ورفع كفاءة القطاع الحكومي وإتاحة المجال للخصخصة. وهي أمور لو طبقت على الواقع بعيدا عن البيروقراطية والتلميع الإعلامي والتزم فيها بالمواعيد المحددة والمقاييس المعتبرة للتقييم لأحدثت فرقا ملموسا خلال السنوات الخمس لهذه الخطة. وهو ما تحتاجه جازان ومناطق أُخرى عانت كثيرا من نقص الخدمات وإهمال بعض المسؤولين وتهميش الاحتياجات وكانت في بعض الأحيان هي ومدن نائية في أطراف الوطن مختبرا لمن يستجد في عمله أو منفى لمن عوقب من رؤسائه.
في حديث الأمير محمد بن سلمان، خلال ورشة عمل مشروع التحول الوطني الذي يستبشر به الكثير قال: إننا أمام تحدٍّ كبير، ولكننا قادرون على التحول وتحقيق طموحاتنا بالمستوى الذي تستحقه بلاد الحرمين الشريفين، ويحقق رفاه المواطن في هذه البلاد الكريمة، وصولاً إلى بناء وطنٍ قوي. وهذا المشروع الآن مع ما حدث في مستشفى جازان العام بشكل خاص ومع ما تعانيه المنطقة بشكل عام أمام تحد كبير ليثبت فعاليته، ويبدأ تطبيق أبجدياته، من تقييم منصف لأسباب الكارثة ومحاسبة المسؤول عنها، أيا كان، ولو كانت أخطاء متراكمة. مشروع التحول الوطني وعد بالعناية بما يتعلق برفع كفاءة القطاع الحكومي، وهذا أقصى ما تحتاجه جازان الآن، ولو أوكل أمر رفع كفاءته لشركات عالمية متخصصة في المجالات الصحية والتعليمية ومجالات الأمن والسلامة في المنشآت.
لا يستوي بنيان ويستقيم أمره وفي أساسه خلل خفي أو عطب تم تجاهله أو لم يتم الانتباه إليه. كان مستشفى جازان العام قبل افتتاحه غير مهيأ لأن يكون مستشفى يستقبل المرضى، ولكن تجاهل هذا الأمر والتعجيل بافتتاحه دون مبالاة بما قد يتسبب فيه من إهمال أسس ومعايير الجودة في البناء والسلامة كانت نتيجتهما 25 شهيدا تحمل روح كل منهم ألف سؤال ولوم لوزارة الصحة، وتنتظر كل واحدة منها إنصافا لهذه النهاية المأساوية، وتتجه أنظار ذويهم وجميع أبناء الوطن المخلصين بكامل أملها وثقتها بأن يكون البدء في تطبيق برنامج التحول الوطني من هناك، من جنوب القلب، ومنه يكون الاختبار الأول لهذا المشروع/ الحلم.