تحت وجه الضحى المشمس عبرت من أمام سرب من نخيل الشارع في مدينة أبها، لمحت سلطانة الشجر المبارك النخلة وكأنها بقايا مأتم تجثو في صمت معتم، حزينة باهتة موجوعة، تتدلى منها قطوف السعف الأشعث، وأزهار العرجون اليابس، وعسيب الخوص الضامر. تذكرت ذلك الأمير العربي حين أشجته نخلة بالأندلس منفردة في أرض الغربة وفي غير موطنها فقال: نشأت بأرض أنت فيها غريبة.. فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي، ومثله الشاعر العراقي (أحمد الصافي النجفي) حين خاطب نخلة بأرض الشام حيث لا نخل: لا أنت نامية ولا أنا نامي.. يا نخلة غرست بأرض الشام / في الشام لم أسكن وربي لحظة.. لو لم تقيدني بها أسقامي / ربطوا بتربتها جذورك مثلما.. ربط السقام بأرضها أقدامي.
وكم أشجت النخلة كوامن الشعراء ومشاعرهم المحمومة، وأثارت في دواخلهم الحيرة والشجن الهادر، وهمهمات الحواس الضاجة بالحنين الباهر والتصدعات الحزينة على مشهد سيدة الشجر المقتنى كما يقول الجواهري: سلام على هضبات العراق وشطيه والجرف والمنحنى / على النخل ذي السعفات الطوال على سيد الشجر المقتنى / على الرطب الغض إذ يجتلى كوشي العروس إذا يجتنى. ويقول عبدالكريم الجهيمان وقد رأى نخلة وحيدة في أوروبا: رأيتها فذكرت الطلح والبانا.. وكان بي شجن زادته أشجانا / أنست لما رأت عيناي طلعتها.. وأذكرتني إخوانا وأوطانا / يا نخلة قد سمت في الأفق هامتها.. وأرسلت في الهواء الطلق عسبانا / تلين من نسمات الريح قامتها.. والخوص يلقي أغاريدا وألحانا.
في تقرير نشر قبل عشر سنوات ذكر أن المملكة العربية السعودية من الدول الرائدة في زراعة النخيل وإنتاج التمور، حيث بلغ الإنتاج (مليون) طن تقريبا، ويقدر عدد النخيل في المملكة (21) مليون نخلة، كما يقدر عدد الأصناف بحوالى 400 صنف، تنتشر في مختلف المناطق الزراعية وتتميز كل منطقة بأصناف معينة، أما نخلة شارعنا مقروحة القلب، جريحة العمر، مكسورة الخاطر، فقد أحنت رأسها كشظايا اللؤلؤ لتقول للعابرين: لا يريحني الندى والضباب في هذه الديار، ولا يطربني هطول الأمطار خلال الإزهار والتلقيح، ولا أحب الضوء المشمس تحت سطوة وغزارة السحب والغيوم، مما يقلل من كفاءة ثمري، فلماذا حملوني إلى تربة غير تربتي، وفضاء غير فضائي، وعوالم غير عوالمي، ومناخ غير مناخي، ويأملون أن أكون صبية خضراء مثقلة بالرطب، وتغتسل ذوائبها بالدفء ويزهر كافورها بالطلع، وينتصب جذعها كالسارية، وتمرح عذوقها كعيون الأطفال. يقول الشاعر (عبدالله القرعاوي) على لسان نخلة شاهدها في مدينة أنديو الأميركية: غريب الدار لا وطنا وأهلا.. نزلت بساحنا ضيفا فأهلا / أراك تصوب النظرات نحوي.. كأنك لم تشاهد قبل نخلا / أو أنك سابح في التيه روحا.. أو أنك في الفلا مجنون ليلى / أراك بعدت عن أهل ودار.. ولكن ما نسيت أخا وخلا.