ولغير الناطقين بلسان أهل الجنوب، أولئك الجنوبيون الذين اسمرّت جلودهم تحت شمس القُرى المُشمسة المؤنسة، نقول: إن هناك نوعين من الحَبّ بفتح الحاء والباء، تبذره أيدي المزارعين الجنوبيين بتربة الأرض الزراعية، فإمّا المسقوي، وهو حسبما تقول الروايات، ذاك النوع من الحبوب التي يبذرها المزارع في الأرض، ويوليها عنايته بالسقاية والاهتمام، حتى وقت الحصاد الموسمي، فيجدها قد أينعت سنابل وأغاني، وإمّا العثّري فهو نوع من الحبوب الزراعية تُبذر في التربة فقط دون سقاية، وتظلّ تنتظر السقيا الإلهيّة، وقد تُنبت سنابل وقد لا تُنبت.
المقدمة هذه، أردت منها، إسقاط الضوء على شطر شعر جنوبي، في غاية الشهرة والذيوع والجمال والعمق، إذ يقول شاعره:
اختلط حَبّ المساقي وحَبّ العثّري.
هذا الشطر البسيط والعميق، لا يناقش الفوارق بين حبوب الزراعة من ناحية نوع السقاية التي أشرت إليها أول المقال، وإنما يناقش الفوارق النوعية بين أي صنفين أو نوعين من الأشياء كلها التي حولنا، من ناحية قيم الرداءة والجودة، رداءة العثّري، وجودة المسقويّ.
الشطر الشعري هذا، رغم بساطة لغته وفكرته، إلا أن فيه إسقاطا فلسفيا وفكريا عميقا، على كل مجالات الحياة الإبداعية والفكرية والاجتماعية التي تختلط فيها قدرات البشر بين الجيد والجميل والمبتكر، وبين السيئ والرديء والعادي.
مسح قرائي بسيط على منتوجنا الفكري والثقافي والإعلامي والاجتماعي، قادر على أن يعطينا نتائج كلها داعمة لصحة هذا الشطر الشعري العجيب، في وقت اختلط فيه الرديء بالجيد، والسيئ بالجميل، في كل مناح حياتنا اليومية الاجتماعية والإبداعية والفكرية والسياسية والإعلامية والرياضية، إذ زاد العثّري وفاض كيله، بجانب المسقويّ القليل والنادر، في حالة ربما لا تعرف معها، أين العثريّ وأين المسقوّي، فيما نراه ونعايشه.
واختلط حَبّ المساقي وحَبّ العثّري.