في رأيي؛ أن الغيرة في صورتها الأقرب للانتماء أو في صورتها الأقرب للاستحواذ هي طاقة تحتاج لأن يتم توجيهها من خارجها. أي أن يتم حكم الغيرة بالأخلاق، وتحديدا بأخلاق العدالة
تعبيرات من نوع الغيرة على الثقافة،الغيرة الثقافية كانت الدافع وراء هذه المقالات. حتى الآن قمنا بتحليل معنى الغيرة باعتبارها علاقة ثلاثية تجمع الذات بمن تغار منه ومن تغار عليه.
هذه العلاقة مدفوعة برغبة الذات في الحصول على امتياز على من نغار عليه، وإبعاد من نغار منه إلى درجة معينة.
هذا الشعور بالتملك أو بالقلق على فقدان من نحب أساسي في الغيرة، ويمكن أن نستخدمه للتفريق بينها وبين الحسد.
الغيرة هي أن نخاف من الآخر أن يفقدنا ما نملك أو ما نعتقد أننا نملك. اللاعب القديم المشهور الذي يغار من اللاعب الجديد في عالم الشهرة يخشى من خسارة مشجعيه لمصلحة هذا النجم الجديد. في المقابل الحسد لا يتعلق بما نملك بل ما لا نملك. الفقير الذي يحسد الغني على ماله لا يقلقه أن يفقد ما يملك فهو أصلا لا يملك ما يخاف على ضياعه.
كذلك قلنا إن الغيرة ربما تكون تعبيرا طبيعيا عن الانتماء لمن نحب، ولكنها دائما تهدد بخطر تحول هذا الانتماء إلى رغبة في السيطرة والتحكم، تلغي معها حرية وذاتية من نحبهم ونغار عليهم.
المعيار الذي اقترحناه لإبقاء الغيرة في حدودها الطبيعية، هو أن تبقى دائما في حدود الثقة بمن نحب، وأن الانتماء علاقة يقررها الطرفان ولا قيمة لها بطرف واحد.
اليوم، محاولة لنقل هذا التفكير إلى العلاقات الاجتماعية وعلاقة الفرد بجماعة معينة، مثل الجماعة الوطنية أو الجماعة الدينية أو الجماعة العرقية أو الجماعة الوطنية.. إلخ.
الغيرة على الجماعة يمكن التعبير عنها بمجموعة من المشاعر والسلوكيات التي تتوزع على أفق طويل يمكن تحديد الموقفين التاليين كنقاط تحدد أطرافه:
من الجهة الأولى، تعني الغيرة التعبير عن الانتماء إلى هذه الجماعة والاعتقاد بأن لها الأولوية في مجهود وطاقة الفرد. كأن يعتقد الفرد أن عليه واجبا لبذل طاقته وقدراته لمصلحة أهل المنطقة التي ينتمي إليها. في الطرف الآخر: تكون الغيرة ليست فقط تصديا للدفاع عن الجماعة ضد أعداء الخارج، بل حتى تصديا لأفراد الجماعة الذين لا يتوافقون مع غيرة الذات.
الطرف الأول انتماء والطرف الثاني استحواذ. الذي تضيفه الغيرة على الانتماء والاستحواذ هو القلق من الآخر. هذا القلق في رأيي هو أس إشكالية الغيرة اجتماعيا.
للتوضيح، يمكن أن نتخيل شخصين يعيشان في كندا، قرر كل منهما الانتقال للعيش مع جماعة أخرى:
الأول، قرر العودة للعيش مع أهل بلده الأصليين، البلد الذي هاجر منه قبل 40 سنة. الآخر، وهو طبيب قرر العيش مع جماعة في إفريقيا يعاني أهلها آثارا صحية سيئة لمجاعة طال أمدها.
الأول يتحرك بمنطق الغيرة على هذه الجماعة، والثاني بمنطق الرحمة أو المحبة.
الأول في رأيي سيربك علاقة أهل بلده بالآخر في أحسن الأحوال. بمعنى أن حركته وانتماءه مدفوعة برغبة التفوق على الآخر ومنافسته.
في المقابل، الطبيب يمكن أن يعمل ويقدم كل ما يستطيع دون هذا التمحور التنافسي مع الآخر. الآخر هنا ربما يظهر على أنه معين وشريك. في الطرف الأقصى نجد أن الغيرة تعطي الاستحواذ طاقة هائلة إضافية.
ليس من المستغرب هنا أن نجد الأيديولوجيات الأممية وما ينتج عنها من أنظمة سياسية، هي الأقسى ليس على الآخر بل على الجماعة التي ترفع شعارات الدفاع عنها.
بل إنه يمكن الحديث عن علاقة طردية بين شعارات الدفاع عن الجماعة والغيرة عليها وبين قمع هذه الجماعة.
في الاتحاد السوفيتي مثلا، نجد أن ما تعرض له العمال والفلاحون من قمع توافق مع شعارات الدفاع عن طبقة العمال والفلاحين.
الستالينية مثال على هذه الحقبة، إذ ترافق حب ستالين للشعب وغيرته عليهم، وهو ما آمن به كثير منهم، وقمعه لهم وحكمهم بالحديد والنار. الأيديولوجيات العروبية في الشرق الأوسط نموذج آخر للطاقة المروعة التي تبثها الغيرة على الجماعة في عمل المستبد.
العرب قبل غيرهم كانوا أكبر ضحايا الحكم الناصري والبعثي والقذافي.. إلخ.
لن نستغرب كذلك أن المسلمين في سورية والعراق يهربون من حكم أكثر الجماعات في العالم رفعا لشعارات الغيرة على الإسلام والمسلمين داعش.
الطاقة التي تضخها الغيرة هنا لديها قدرة هائلة على دفع الذات باتجاه الاستحواذ على الجماعة. حين يصرخ الزعيم أنا الشعب والشعب أنا فإنه يعبر بدقة عن الغياب الكامل للشعب في تفكيره.
الصوت الشعبي المخالف هو بالضرورة صوت خيانة وغدر. لذا في رأيي أن الغيرة في صورتها الأقرب للانتماء أو في صورتها الأقرب للاستحواذ، هي طاقة تحتاج إلى أن يتم توجيهها من خارجها.
أي أن يتم حكم الغيرة بالأخلاق، وتحديدا بأخلاق العدالة. الغيرة شعور يشبه شعور الطمع والحب والحسد والشفقة. هذه المشاعر الذاتية متعلقة بالآخر وقد تؤذيه.
عبارة ومن الحب ما قتل تحكي تجربة إنسانية عميقة مع المشاعر المنفلتة من معايير الأخلاق. منطق العدالة حركة باتجاه إعادة التوازن في العلاقات الإنسانية.
في قضية الغيرة؛ العدالة حركة في اتجاه إنصاف من نغار عليه ومن نغار منه. حركة في اتجاه احترام حرية أفراد الجماعة التي نغار عليها، وحقهم في الاختلاف مع تصوراتنا وغيرتنا، وحركة في اتجاه إنصاف الآخر الذي نخشى من سيطرته على من نحب.