لا يمكن لكم أن تتخيلوا أين وصلت مراسم العزاء في مجتمعنا!
تحول الأمر إلى عادة اجتماعية غريبة.. لم أجد لها -واعذروا جهلي- أي أصل شرعي أو اجتماعي.. عادة تحويل العزاء لمناسبات وحفلات اجتماعية صاخبة، باهظة التكاليف.. حتى نشأ اقتصاد جديد قائم على الموت.. كلما ازداد عدد الموتى ازدادت الأرباح!
هناك مؤسسات مهمتها الإشراف على مناسبات العزاء.. هذه ليست مزحة.. هذا واقع!
يموت الإنسان، ولا يدرك أنه بموته ستتحول داره لقاعة احتفالات لمدة ثلاثة أيام بلياليهن، يجتمع فيها الناس للتعارف، والأكل.. يقول أحدهم: فوجئت في أحد مخيمات العزاء يقدمون عصائر طازجة وحليب خلفات!
وهناك من يتفنن ويستبدل صحون المفاطيح بالبوفيهات المفتوحة والموائد الفاخرة والممتلئة بما لذ وطاب.. والهدف -أو الرماد الذي يُذر في العيون- هو أن هناك ضيوفا قادمين من خارج المدينة ولا بد لهم من أكل.. ولا أعلم هل هذه مناسبة يُخيّم عليها الحزن وتمتلئ بالدموع والعِبر والعَبرات.. أم مناسبة أكل وحلويات وشاي زهورات!
ثم لماذا لا يتدبر بقية الأقارب الأمر، ويأخذون هؤلاء الضيوف إلى منازلهم، إن كانوا صادقين!
يقول أحدهم: توفيت جدة أحد أصدقائي الشهر الماضي، وأكلت في عزائها ما لم آكله في حياتي!
كأنه قال لي: مصائب قوم عند قومٍ موائدُ!
هناك على هامش مجالس العزاء من يلعب البلوت.. هذه الأمثلة ليست من عندي.. هناك من يعقد صفقة بيع أرض في مجلس عزاء.. وهناك من يتصلون ببعضهم للقاء في مجلس العزاء لتناول طعام العشاء.. وهناك -كما رواها لي أحدهم- من تحمس واستظرف نفسه بعد العشاء اللذيذ، وبدأ في إلقاء النكت والطرائف!
وهناك في الأقسام النسائية ما لا يُصدق -اسأل وابحث إن كنت لا تدري- أصبح هناك مكياج خاص للعزاء.. وتسريحات خاصة بالعزاء.. وفساتين خاصة بالعزاء.. وتصبح مناسبة للتعارف، والبحث عن عروس للمحروس، وهناك -في إطار الاقتصاد الطارئ- خدم وصبابات قهوة خمس نجوم!
انتهت المساحة.. نحن أمام عادات طارئة لا أعلم من أين جاءت، وكيف تطورت، ولماذا ازدهرت.. وكما قلت في البداية، ليس لها أصل ديني أو اجتماعي.. والمحزن رغم كل هذه الخطب والمحاضرات التي تملأ مساجدنا وجوامعنا لم أسمع -ولم ينقل لي- أن هناك خطيبا واحدا رفض هذه العادات الدخيلة التي بدأت تنمو وتستطيل جذورها تحت ذرائع واهية!