نحن بحاجة إلى ثقافة جديدة في بناء مساكننا على نحو يفي بحاجاتنا من فلل صغيرة أو شقق في عمائر متعددة الأدوار ضمن مجمّعات تتوافر فيها مواقف للسيارات وساحات للعب الأطفال وممارسة الرياضة والمشي

لا أكتب دفاعاً عن وزير الإسكان، ولا انحيازاً إلى الفريق الذي تلقّف مقولته الشهيرة عن حاجة الإسكان إلى فكر، بشيء غير قليل من المعارضة والنقد والتهكم والتندّر، وفي بعض الأحيان التجريح الذي لا يحسن حتى من سفهاء الناس فضلاً عن عقلائهم، خصوصاً ما انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي أحاديث بعض المجالس. لست هنا في معرض الدفاع عن معالي الوزير، ولا عن أفكاره؛ فهو وحده من يستطيع الدفاع عن فكرته بالنجاح في الميدان، والتغلّب كليًّا أو جزئيًّا على هذه المشكلة المزمنة، وأنا على يقين أنه لو نجح فإن كل تلك الأقلام التي انتقدته ستتحول إلى صالحه بالثناء عليه، وعلى أفكاره التي سيقال عنها- حينئذ- إنها سابقة لأوانها، وإنها تتجاوز أفكار معارضيه وفهمهم لها حينما طرحها لأول وهلة. وإنما سأعود بالذاكرة قليلاً إلى الوراء حينما أتى علينا وقت ليس بالبعيد جداً كانت فيه ثقافة بناء المساكن على مساحات واسعة مطمحا لقطاع كبير من الناس حتى غدت مدننا من أكثر مدن العالم اتساعاً في البناء السطحي، واستطال امتداد بعضها طولاً وعرضاً إلى مسافات ربما توجب قصر الصلاة وجمعها لمن يتنقل فيها من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها؛ ذلك لأن ساكنيها بالغوا في سعة منازلهم بدرجات ملحوظة، فتراهم يتوسعون في مساحات المجالس وصالات الطعام والاستقبال، وغرف النوم، وحتى دورات المياه التي تقترب مساحات بعضها من مساحات الغرف دونما نفع أو انتفاع يذكر بتلك المساحات الواسعة.
أما الأحواش والأفنية فحدث عن اتساع مساحاتها ولا حرج، حتى إن المعجبين بها كثيراً ما يتمثلون بأقوالهم: بأن منزل فلان أو علان يركض في فنائه الفرس، كناية عن اتساعه، بل إن كثيرا من الناس بنوا بيوتهم على أكثر من قطعة سكنية معتمدة دون أن يراعوا مكانها من المخطط العام للبيت؛ كأن تكون مرفقاً مستقلاً له وظيفة محددة، أو استراحة ملحقة بالبيت، أو نحو ذلك حتى يسهل فصلها عند الحاجة لبيعها، أو توريثها أو بناء وحدة سكنية مستقلة عليها في مستقبل أيامهم. بل على العكس من ذلك، فإنهم حينما يبنون عشوائيا على تلك القطع الزائدة ضمن وحدات أخرى دون تفكير وتخطيط مسبق، فإنما يعملون على قتلها -إن جاز التعبير- وحرمان أنفسهم ومن سيأتي بعدهم من الاستفادة منها مستقلة بذاتها، إلا أن يهدموا البيوت القديمة ليبنوا عليها من جديد، وهذا ما وقع فعلاً مع ما في ذلك من هدر للمال. فكم لاحظنا في كثير من مدننا الكبيرة أن بيوتاً غير قليلة تهدم ويعاد البناء عليها من جديد، وإنما من وحدات سكنية متعددة!! وكم لاحظنا أيضاً قبل الطفرة الأخيرة وغلاء الأراضي والمساكن، وتحديداً في بعض أحياء مدينة الرياض الراقية؛ الإعلان عن بيع قصور على مساحات واسعة من الأراضي بأثمان مغرية جداً، ومنهم من عمد إلى هدم قصره وتسوية مكانه، والإعلان عن بيعه أرضاً خالية دون بناء، لما في ذلك من زيادة في سعرها، والتعجيل ببيعها أكثر مما لو كانت مبنية بناءً قديماً. تلك كانت نتيجة حتمية لثقافة السكن والمساكن التي سادت عندنا طوال طفرتين ماليتين خلتا، وهذه الثقافة لم تكن حكراً علينا وحدنا، بل عاشتها أقوام من قبلنا، خصوصاً في أوروبا في عصر الاستعمار غير البعيد كثيراً عن زماننا هذا، وأذكر منها في بريطانيا التي انهالت عليها أموال المستعمرات في عهد الملكة فيكتوريا (الحقبة الفيكتورية) وما بعدها، وأثرى منها أكابر مترفيها في إنجلترا وأسكتلندا وويلز وإيرلندا ثراءً فاحشا، فابتنوا القصور الفارهة واختطوا حولها الساحات الواسعة، وتأنقوا في عمارتها وزخرفتها بطرز معمارية مميزة تنسب حتى اليوم إلى العصر الفيكتوري أو العصر الاستعماري.
فلما انكمشت بريطانيا، وعادت أدراجها إلى جزرها الكئيبة، وخلّف أولئك المستعمرون أجيالا غير قادرة على إدارة تلك القصور الفارهة والبيوت المتميزة بأفنيتها الواسعة، وحدائقها الجميلة، تحوّلت إلى خرائب تسكنها الأشباح بحسب اعتقادهم، وقليل منها تحول إلى حانات وملاهٍ ليلية ومطاعم (وموتيلات)، وسادت ثقافة جديدة خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية تحبّذ السكن في بيوت صغيرة جميلة متراصة ومتلاصقة، لها أفنية صغيرة تكفي بالكاد لإيقاف سيارة واحدة أو سيارتين فقط، وزراعة بعض أنواع الزهور التي تزينها، وخصوصاً في مواسم الربيع، فانتظم عمرانها، واتّسق بناء بيوتها، وتوافر لها من الخدمات ما لا يمكن أن يتوافر لها لو ظلت على حالها من الامتداد والتوسع غير المدروس.
ولعلنا نلحظ جميعاً في بلادنا أن كثيراً من الموسرين الذين ابتنوا بيوتاً فارهة على مساحات واسعة لم تراع حاجة الأبناء الذين ما لبثوا أن كبروا وتفرقوا، واستقل كل واحد منهم بمنزل خاص بعيدًا عن منزل الأسرة، وتزوج البنات وانتقلن إلى بيوت أزواجهن، فأصبح ذلك البيت الفاره المترامي الأطراف عبئًا على الأبوين المسنين اللذين يعانيان الوحدة، وهما يسكنان في منزل خواء تصفر فيه الرياح، وتتطاير في فنائه أوراق الأشجار، ويدبّ فيه النمل والحشرات الضارة، وتتشعّث أرضيات فنائه وتتشقق، ويجفّ ما فيه من نبات، فيضطر الأبوان إلى هجره، أو بيعه، والسكن في بيت قليل المساحة متقارب الغرف والمرافق، تسهل إدارته والتنقل فيه، وهكذا: فهل نحن بحاجة إلى ثقافة جديدة في بناء مساكننا على نحو يفي بحاجاتنا من فلل صغيرة أو شقق في عمائر متعددة الأدوار ضمن مجمّعات تتوافر فيها مواقف للسيارات، وساحات واسعة للعب الأطفال وممارسة الرياضة والمشي، وبها خدمات متنوعة وحراسات أمنية وخدمية على مدار الساعة؟ هذا في تقديري ما نحتاجه، وتحتاج إليه أجيالنا في مستقبل أيامنا، وعليه ينبغي أن نؤسس ثقافة جديدة في سكننا ومساكننا.