للدول الصناعية -والتي أصبحت عظمى- سياستان: داخلية وخارجية. الداخلية مثالية والخارجية مادية بحتة، إذ الخارجية ولو أدت إلى إفقار الخارج فالمهم أن تغني الداخل، وتسعى إلى رفاهيته

بعد كل حدث جلل يصيب إحدى الدول العظمى، كاعتداء خارجي عليها؛ مثل ما حدث للولايات المتحدة، في الحادي عشر من سبتمبر، أو ما حدث قبل أسبوع من أحداث دامية في باريس؛ يمسك العالم أنفاسه، تحسبا لردة فعل هذه الدولة العظمى أو تلك، وما يمكن أن يحدث من تداعيات زلزال ردة الفعل هذه على العالم. وتبدأ التكهنات عن طبيعة ردة الفعل وتداعياتها، ومن ستصيب ويخسر من جرائها، ومن سيحالفه الحظ ويكسب من ورائها.
في الغالب تكون التكهنات من نوع الأماني؛ فكل يتمنى أن تصب ردة فعل الدولة العظمى الجريحة وتداعياتها في مصلحته وضد مصلحة خصومه. ولكن في الحقيقة لن يتسنى لأحد، مقاربة توقع ردة فعل الدولة العظمى الغاضبة وتداعياتها؛ ما لم يجب عن السؤال التالي: ما الذي يدير علاقات القوى العظمى الخارجية، المصالح أم الأخلاق؟
السؤال أعلاه طرح وما زال يُطرح، وهو من أقدم الأسئلة التي تواجه من يتمعن في تصرفات الدول العظمى؛ خاصة في علاقاتها الخارجية، من أفعال وردات أفعال.هنالك مدرستان تجيبان عن هذا السؤال: المدرسة المثالية، والمدرسة المادية.
المدرسة المثالية، هي التي ترى أن ما يدور في العالم من صراعات، ما هي إلا صراعات بين محاور الخير ومحاور الشر؛ أي تطرح رؤيتها من منظور أخلاقي بحت.
أما المدرسة المادية، فتلك التي ترى أن ما يدور في العالم من صراعات، ما هي إلا صراعات على مكاسب مادية بحتة، لا دخل فيها للأخلاق لا من بعيد ولا من قريب، هذا إن لم تكن مضادة لها.
ومع قدم الصراعات على المكاسب المادية بين الأمم، منذ نشوء نزعة التملك عند الإنسان، وعليه تشكلت الدول ونشأت الحضارات القديمة؛ إلا أن بدايات تشكل صيغ وطبيعة الصراعات بين الدول والشعوب وتداخلاتها في العصر الحديث والمعاصر؛ كانت نتيجة الكشوفات الجغرافية الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي. إذ قامت الكشوفات الجغرافية بسبب صراع السيطرة ومد النفوذ بين إسبانيا والبرتغال، ثم لحقتهما باقي دول أوروبا في مجال التنافس والصراع على اكتشاف العالم الجديد، الأميركيتين الشمالية والجنوبية، وإعادة اكتشاف العالم القديم، في قارتي آسيا وأفريقيا.
ونتيجة الكشوفات الجغرافية هذه، تكدست خزائن الدول الأوربية بأطنان الذهب والفضة والبضائع النادرة، وعليه فاضت عليها الأموال، وبدأت في تعمير المدن وشق الطرق، وإنشاء العلاقات التجارية بينها؛ وظهر ما عرف في أوربا بـالثورة التجارية.
بعد إنشاء المدن الجديدة الزاخرة بالمال والأعمال والتجارة، حصلت هنالك هجرة من الأرياف إلى المدن؛ وهذا ما أضعف قبضة النظام الاقتصادي الإقطاعي القديم، وظهر ما عرف بالطبقة الوسطى البرجوازية، في المدن الناشئة في أوروبا.
وهنا، انتشر العلم والأعمال الحرفية والمهنية؛ حيث أسست الأكاديميات العلمية وازدهر العلم البحت والفكر الإنساني؛ وأتى ذلك على حساب هيمنة الفكر الكنسي على أوروبا.
وكنتيجة لبناء المدن وظهور الطبقة الوسطى في أوروبا، وتطورها تجاريا ومهنيا وعلميا وثقافيا؛ أدى ذلك إلى تداول مفاهيم إنسانية جديدة كالحرية والعدالة والمساواة والعلمانية بين الناس، والتي شكلت بدورها لديهم النزعة الإنسانية والثقافة الحقوقية.
وهذا التطور الحقوقي الحديث والنوعي لدى الشعوب الأوربية، فجر الثورات في بريطانيا وفرنسا وأميركا في النصف الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي؛ وأثمر عن نشوء الديمقراطيات وحقوق الإنسان، والتي عمت معظم غرب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
وكانت هذه الديموقراطيات محمية بدساتير تم صياغتها وتدقيقها من ممثلين تم انتخابهم ديمقراطيا من الشعب؛ ضمنت لهم حقوقهم المدنية والمادية، وأصبحت حكومات هذه الدول الديموقراطية والتي تمثل أحزابا، لكل منها رؤيته الخاصة في تفسير وتطبيق الدستور، بمساندة نوابه في البرلمانات المنتخبة؛ تتنافس على رفاهية شعوبها، من أجل أن تنتخب لإدارة الدولة المرة بعد الأخرى.
إذًا فـالثورة التجارية في أوروبا، والتي هي وليدة الكشوفات الجغرافية؛ أفرزت وبعد حوالى 3 قرون من النمو والتطور، مجتمعات الحقوق والرفاهية في أوروبا.
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، تطور العلم، نتيجة خطط التنمية الناجحة في دول الغرب، وفي الوقت نفسه ازدهرت وتطورت لديها التجارة؛ وعمت الرفاهية شعوبها أكثر من ذي قبل.
تطور العلم وازدهار التجارة، أنتج ما عرف بـالثورة الصناعية؛ ما أدى إلى ارتفاع مستوى المعيشة والرفاهية في دول الغرب؛ وعليه وجب على الحكومات إما رفعه لمستوى أعلى أو على الأقل الحفاظ عليه، من أجل أن تنتخب ويعاد انتخابها.
في ظل جشع أرباب الصناعة واختراع ماكينات التصنيع الضخمة، عالية الجودة وغزيرة الإنتاج؛ وقعت الدول الغربية في أزمة اقتصادية حادة، تنذر بثورات عمالية عارمة فيها؛ مما قد يؤدي إلى فوضى منفلتة فيها. وذلك نتيجة الإنتاج الصناعي الفائض جدا عن حاجتها؛ والذي أدى إلى عواقب كارثية على اقتصاداتها، وأخذ يهدد أمنها الداخلي، وأهم هذه العواقب، هو استهلاك المواد الخام الطبيعية المحلية التي تحتاج إليها للتصنيع، وفي الوقت نفسه تكدس البضائع المنتجة لديها؛ لأنها أكثر بكثير من حاجة استهلاكها المحلي، وعليه أخذت المصانع في تسريح العمال الذين كانوا حينها منظمين بنقابات عمالية، وكثير من هذه النقابات كانت تدار بواسطة اشتراكيين وشيعيين؛ إذ أخذت الأفكار الماركسية تنتشر في أوربا، بسرعة غير متوقعة.
هنا، لم يكن الحل أمام الدول الغربية المصنعة، إلا أن تبحث عن حل لأزماتها، داخل حدودها، وذلك في الحدود البعيدة عن حدودها من أجل البحث عن مواد خام، تحرك عجلات مكائن مصانعها التي تكاد تتوقف، وفي الوقت نفسه، تسوق فيها منتجاتها التي أخذت تتكدس لديها.
وهنا، بدأ تنافس الدول الغربية على استعمار الدول والشعوب الضعيفة والبدائية خارج أوروبا والولايات المتحدة. وهنا نجحت الدول الغربية في حل أزماتها الاقتصادية الحادة، وبدأ يتدفق عليها من مستعمراتها الجديدة، المواد الخام، وبأسعار زهيدة، وتسوق فيها منتجاتها وبأسعار مرتفعة.
وهكذا، عن طريق إفقار شعوب المستعمرات، تم إغناء شعوب الدول الغربية وحل مشاكلها الداخلية على حساب نشر مشاكل في المستعمرات. وبدأ التنافس بين أحزاب كل دولة فيها، للتفنن في طرق إداراتها لمستعمراتها، لتحصد أكثر المكاسب منها، لشعوبها، ولو على حساب قيمها الدستورية.
إذًا فالدول الصناعية، والتي أصبحت عظمى؛ كانت لها سياستان داخلية وخارجية، الداخلية مثالية والخارجية مادية بحتة، إذ الخارجية ولو أدت إلى إفقار الخارج فالمهم أن تغني الداخل، وتسعى إلى رفاهيته.
أميركا وبعد 11 سبتمبر، أزبدت وأرعدت؛ ودمرت دولتين؛ لإرضاء الداخل. وفي النتيجة عادت حليمة لسياساتها لقديمة، بدعم قوى التطرف والتخلف التي هاجمتها في الحادي عشر من سبتمبر، من أجل ضمان مصالحها ومكاسبها المادية، ولو أتى ذلك على حساب مبادئها المثالية الداخلية.
ولن تمضي فرنسا بعيدا عن أميركا في ردة فعلها تجاه ما حدث فيها من مجازر دامية قبل أسبوع؛ إذ لن تكون أقوى ولا أقدر من أميركا في تنفيذ تهديداتها وتوعداتها، فالداخل الفرنسي، مثله مثل الداخل الأميركي، لا يعيش على تصدير قيمه إلى الخارج؛ وإنما يعيش على تصدير بضائعه، حتى ولو كانت أسلحة مدمرة ومحرمة.