في المشاهد الأخيرة للاجئين في أوروبا ظهرت نماذج جميلة جدا تعزز الأمل باستمرار القيم والمشاعر الإنسانية. رأينا كثيرا من الأسر الأوروبية تعد منازلها للقادمين الجدد وترحب بهم

يشهد العالم اليوم واحدة من أكبر موجات اللجوء في التاريخ بسبب الأحداث الدامية في الشرق الأوسط. اللاجئون اضطربت علاقتهم بأماكنهم إلى درجة أنهم قرروا مغادرتها والبحث عن أرض جديدة. اللجوء في الأخير هجرة اضطرارية وإلا فإن الهجرة سلوك بشري منذ عرف الإنسان أن الحركة والتنقل في الأرض حل لكثير من المشكلات. اليوم الدول محاطة بحدود مغلقة في الغالب ولا يتم المرور عبرها إلا بإذن وموافقة. السؤال الذي سأحاول التفكير فيه هو: ما هو الالتزام الأخلاقي تجاه اللاجئين وماهي نتائجه العملية؟ بمعنى: ما هو الواجب الأخلاقي على الأفراد والجماعات التي يطرق بابها آخرون في حاجة ماسة للمساعدة؟ متى نقول إن الواجب الأخلاقي قد تم الالتزام به في قضايا اللاجئين؟ بالتأكيد هذه الأسئلة كبيرة جدا والآراء حولها متعددة، لذا سأركز النقاش حول أحد آفاق التفكير في هذه القضية، وهو أفق الضيافة كقيمة أخلاقية جمعت البشر منذ الأزمان القديمة وكيف يمكن تأسيس معان ذات آثار عملية مباشرة اليوم.
الضيافة جزء من السلوك البشري العام. بحسب علماء الأنثروبولوجيا والتاريخ فإنه من النادر أن تخلو جماعة بشرية من عادات الضيافة. (دريدا) يقول إن الضيافة ليست فقط علامة ثقافية بل شرط لتشكل الثقافة ذاتها. الضيافة أوّلية بهذا المعنى لأنها برأيي تأتي استجابة لشرط إنساني، وهو أن الإنسان يحتاج لأخيه الإنسان. الضيافة هنا استجابة لشكل خاص من الحاجة. الحاجة التي تلبيها الضيافة لها علاقة جوهرية بالمكان. الضيافة في عمقها إعطاء مكان لمن لا مكان له. توفير بيت وسكن ومأوى لمن فقد كل ذلك. الناس تسافر وتغترب وتهاجر وتلجأ لظروف مختلفة. هذا الشرط الإنساني ولّد عادة الباب المفتوح والأرض المشتركة والترحيبة التي تحتضن القادم الجديد أيا كان. لكن الظروف اليوم تغيرت تحديدا بسبب الحدود السياسية التي لا تزال تفصل كثيرا بين كثير من الأفراد والجماعات اليوم على كوكبهم الأم.
في القرن الثامن عشر كتب (إيمانويل كانت) باحثا عن شروط السلام العالمي. أي عن الشروط التي لو توفرت لضعفت احتمالات دخول البشر في حروب إضافية. أحد هذه الشروط كان شرط حق الضيافة العالمية. هذا الحق يعني ألا يتعرض الغريب إلى معاملة عدوانية أيا كان وفي أي مكان في العالم. (كانت) دقيق في تحديد دلالة هذا الحق. نلاحظ هنا أن إعطاء إنسان ما حق ستترتب عليه معان أخلاقية وسياسية مهمة. لذا يفرّق (كانت) بين حق الزيارة وحق السكن. حق الضيافة محصور في حق الفرد في ألا تغلق أبواب المدن والدول في وجهه لأنه بحسب (كانت) شريك لجميع البشرية في سطح الأرض. من حقه أن نوفر له حق التواصل مع الآخرين وتقديم نفسه لهم. حق السكن والاستضافة في المقابل متروك للأفراد. (كانت) هنا يتحرك ضمن حالة من الأمل في أن الباب العمومي المفتوح للغريب سيكفل استضافته من قبل أحدهم. المهم عنده ألا يتم حجب الناس عن بعضهم من خلال حدود الدول. بالنسبة للاجئين هذا الطرح يعطيهم حق القدوم والرعاية العمومية ويحميهم من المعاملة العدوانية، ولكنه لا يكفل لهم حق المواطنة في الأرض الجديدة ولا يمنعها في ذات الوقت. إجراءات المواطنة مستقلة عن حق الضيافة. يبدو ذلك منسجما مع كون ضيافة شخص ما بطبيعتها علاقة محدودة زمنيا وإن كانت الضيافة كقيمة عامة باقية ما بقي البشر. هذا يعني أن الدول لا يحق لها أن ترد اللاجئ من حيث أتى. عليها أن تفتح له الباب مع توفير الشروط الأساسية للأمان والحياة.
لكن كما نعلم أن الواقع يقدم صورا مختلفة. أحيانا الدول المستقبلة للاجئين غير قادرة على تقديم حق الضيافة للقادمين الجدد، وبعض الدول لا تريد تقديم هذا الحق لأسباب سياسية أو أمنية. ما يحدث في كثير من الأحيان هو وضع اللاجئين في مناطق معزولة ومنعهم من الحركة خارجها. هذا الوضع يوفر للاجئين في أحسن الأحيان الشروط الأساسية للبقاء على قيد الحياة، ولكنه يحجب عنهم الهدف الأساسي من الضيافة، وهو فتح باب التواصل بين اللاجئ وأهل البلد. في أحيان أخرى تكون المخيمات مجرد مرحلة مؤقتة وفي أحيان كثيرة يكون الخيار الوحيد غيرها هو العودة من حيث قدمت.
في المشاهد الأخيرة للاجئين في أوروبا ظهرت نماذج جميلة جدا لا تزال تعزز الأمل بأن المشاعر الإنسانية لا تزال تعمل. رأينا كثيرل من الأسر في أوروبا تعد منازلها للقادمين الجدد وترحب بهم بشكل واضح. رأينا استنكارا بشريا للمعاملات السيئة التي تعرض لها لاجئون مثل الصحفية التي حاولت إعاقة لاجئ يبحث عن فرصة للعيش الكريم. اليوم وبعد الجريمة التي تعرض لها الناس في باريس ظهرت أصوات قوية تنادي بألا يؤثر ذلك على استقبال اللاجئين الهاربين من الإرهاب ولا يزال يطاردهم. هذه المشاعر والأفعال والأفكار هي الأمل بأن تدفع الأمور بالاتجاه الأفضل، أو على الأقل أن تخفف من آثار الشر المتصاعد بقوة. هنا الضيافة تعود لتصبح الملجأ أمام حالة إنسانية مؤلمة ولا يمكن تجاهلها.