المسؤول الجديد على الأرجح لا يقوم إلا بأحد أمرين: إما أن يصادر جهود من سبقوه وينسبها إلى نفسه بإحداث تغييرات شكلية، أو يبحث عن فلسفة جديدة تتبناها إدارته لا تكون في الغالب مكملة لفلسفة سابقه
كنت قبل أيام في جلسة مع بعض الأصدقاء، فتحدث أحدهم عن مشروع كان قد أطلقه أحد الوزراء الجدد، فأثنى الجالسون على معاليه، وقالوا فيه ما لم يقله مالك في الخمر، بيد أن أحد الجالسين ممن كان منشغلاً بشاشة الجوال لم يعجبه هذا الكلام، فثار فجأة ودخل معنا في نقاش حاد، وبأسلوب هو أقرب إلى الملاججة منه إلى الحوار والمحاججة، فقال: عن أي مشروع تتحدثون؟! إنني أحد المنتسبين لهذا القطاع، وأدرى منكم بما يحدث، فأرجو ألا يهرف أحدكم بما لا يعرف، وما يجب أن يُعلَم أن هذا المشروع موجود منذ أكثر من 10 سنين بمسمى آخر، وكل ما في الأمر، أن أحدهم حاول أن يتقرب إلى الوزير، فجمع عن هذا المشروع كل ما قام به الآخرون طوال تلك السنوات، وبعد أن قام بتنظيم المعلومات وترتيبها وإعادة صياغتها، ذهب إلى الوزير مسرعاً الخطى لاهثاً الأنفاس مبشراً بولادة مشروع جديد، فطار به الوزير فرحاً، وبعد أن تم الاتفاق على التسمية، أُطلق هذا المشروع.
لا يمكنني في هذا المقال تأكيد هذا الكلام ولا نفيه، ولا الجزم به ولا استبعاده، غير أن ما هو مؤكد أن غياب العمل المؤسسي هدر للمال والجهد والوقت، وسبب في إحداث فوضى في إدارة الأولويات، فيبدو مهماً ما ليس بالمهم، وقد يدور الإنسان حول نفسه من حيث لا يشعر.
فحين لا يكون العمل قائماً على أساس مؤسسي، يكون رأس مال المسؤول الجديد هو مقدار ما يبعثه من أوراق إلى الميدان مدموغة بتوقيع سعادته، بغض النظر عن أهميتها، وتنحصر عادة مهمته في السنة الأولى من تكليفه بمسح كل ما يتعلق بالمسؤول السابق من أعمال، كما لو أن نجاحه منوط بإثبات فشل سابقه، إضافة إلى أن العاملين في الميدان سينشغلون بقراءة تعاميم المسؤول الجديد وطباعتها وإعادة تعميمها، ثم إنهم ملزمون بمتابعتها وتطبيقها وإرسال تقارير -شكلية- عنها، من أجل طمأنة سعادته على أن تعاميمه أوامر، ورغباته مقدسات، وليس مهماً أن يكون لها أثر فعلي أو فائدة، بقدر ما أن المسؤول يجب أن يبقى في دائرة الضوء، فإن من مساوئ غياب العمل المؤسسي أن كل مسؤول يأتي لا يفكر بالبناء على من سبقه، بقدر ما أنه يريد أن يضع يده على كل ما يصدر عن إدارته من أشياء، بدءاً من الشعار وليس انتهاء بمشاريع مليارية لا تملك إلا أن تتحسر عليها ضارباً أخماساً لأسداس، داعياً الله ألا تكون معطلة لما هو أساس في العمل، فالمسؤول الجديد على الأرجح لا يقوم إلا بأحد أمرين: إما أن يصادر جهود من سبقوه وينسبها إلى نفسه، وذلك بإحداث تغييرات شكلية لا تتجاوز تعديل المسميات وإعادة إطلاقها كمشاريع جديدة، وإما أن يلغي المشروع من أساسه، ويبحث عن فلسفة جديدة تتبناها إدارته لا تكون في الغالب مكملة لفلسفة سابقه مع بقاء الأهداف كما هي، لا إدراكاً بأهميتها بقدر ما أنه جمود وعدم قدرة على إيجاد أهداف جديدة، وفي حال التغيير على مستوى الوزراء فإن من أسوأ الظواهر أن يتسرب إلى الميدان أن هذا المشروع هو (مشروع الوزير)، فيتم التعامل معه على هذا الأساس، لأن عمل الوزارة سيختزل في هذا المشروع، وسيتم نفخه إلى أن يتضخم فيصل إلى حجم هو أكبر ألف مرة من حجمه الفعلي، وكذلك يتم الترويج له والدعاية في وسائل الإعلام لإيهام الناس أن هذا الوزير فلتة، وأنه في وقت وجيز قد أحدث فارقاً كبيراً في عمل الوزارة، مع أنك في الواقع لو قمت بتقييم فعلي لهذا المشروع لكان من خياراتك أن تستغني عنه تماماً لعدم أهميته، أو لتعاملت معه كما تتعامل مع نوع الصابون المستخدم في إدارتك.
لا تنحصر المشكلة فيما يهدر من مليارات، ولا فيما يضيع من جهد ويهدر من وقت، ولا حتى في إحساس العاملين بالسأم واليأس والملل، إنما المشكلة في فوضى الأولويات، والعناية بأشياء أقل أهمية على حساب أشياء أهم، بما يبعث رسائل سلبية إلى الميدان أن كل ما يحدث هو تمثيل في تمثيل، وأن دور كل واحد منهم لا يتجاوز أن يكون (كومبارس) في فيلم هو من بطولة معالي الوزير، سرعان ما تنتهي أدوارهم بمجرد إعفاء البطل، فيعود الممثلون إلى أماكنهم قبل مقدمه، داعين الله أن يكلفوا بأدوار أكثر أهمية في المرحلة القادمة.