السياسة الشرعية مبنية على المصلحة التي يقدرها ولي الأمر، كما أن الحفاظ على المقاصد العامة للشريعة بالعدل والمساواة وحفظ الحقوق مقدم على الوسائل التي ليست مقاصد في حد ذاتها
المسلمون اليوم في العالم الغربي هم أكبر جالية بعد المسيحيين، وأعدادهم في تصاعد مستمر بسبب الحروب والصراعات في بلدانهم الأصلية للأسف، ولنا أن نتساءل عن حياة أولئك في تلك الدول المتناثرة! وعن حرياتهم وحقوقهم؟ ماذا لو طبق الغرب عليهم بعض القوانين التي تميزهم عن غيرهم وتحرمهم من ممارسة عباداتهم وحرياتهم وتمنع عنهم حق المواطنة وتفرض عليهم جزية مثلا؟
أنا هنا لا أدافع عن الغرب ومظالمه التي حدثت وتحدث كثيرا في بلاد المسلمين، وإنما أتحدث عن المبدأ في التعامل مع الآخر تحت مظلة المعاملة بالمثل، وسأحاول طرح تساؤلات كثيرة تعيد التفكير في عدد من النقاط التي يثيرها بعض المتشددين ويرتكزون عليها في كثير من أفكارهم المتطرفة.
كنت قد كتبت مقالا بعنوان المساواة أصل من أصول الإسلام، وكان يتحدث عن المساواة بين المسلمين أنفسهم باختلاف مذاهبهم وأعراقهم وألوانهم، ولم أتطرق للمساواة مع غير المسلمين لضيق الوقت، ورأيت أن يكون هذا المقال ليغطي هذا الجانب.
في الزمن المعاصر نشأ ما يُسمى بالقانون الدولي، وهو يحتوي على كثير من المعاهدات والمواثيق الدولية التي اتفقت عليها سائر الأمم، وهو يرتكز على وضع آليات سلمية حديثة لتسهيل التعاملات والتعاون الدولي بين الأمم والشعوب، بالإضافة إلى وسائل لحل النزاعات بطريقة حديثة وعادلة في المجمل.
من أهم القواعد في القانون الدولي هي قاعدة المعاملة بالمثل، وهي تأتي في عدد من المجالات، مثل الاختصاص القانوني وتنفيذ الأحكام القضائية وكذلك في القوانين السيادية ونحوها، وعلى هذا الأساس؛ تشكلت الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية؛ إلا أن بعض الدول قد لا تتبنى قاعدة المعاملة بالمثل في بعض الجوانب الإنسانية مثلا، حيث قد تتعارض مع الدستور للبلد، مثل حق اللجوء وحرية العبادة والمساواة إلخ.
وإذا نظرنا إلى الإسلام فإننا سنجد أيضا كثيرا مما يؤسس لمبدأ المعاملة بالمثل، ولكن بعض الفقهاء التقليديين ما زالوا يكررون مثلا مبدأ الجزية على أهل الذمة، وهي عمل تاريخي كان يمارس من أغلب الأمم آنذاك وكان متعارفا عليه، ولكن اليوم هناك معاهدة دولية بأنه لا تمييز بين المواطنين، فالمسلمون الذين يعيشون في الغرب مثلا لا تفرض عليهم الجزية أو التمييز لأجل دينهم، ولا أعتقد إطلاقا أن من العدل والإنصاف أن نعاملهم بأسوأ مما يعاملوننا به في هذه النقطة، وجميع هذه التشريعات الجزية وعقد الذمة مبنية على السياسة الشرعية والمصالح المرسلة التي تُخضِع كثيرا من الأحكام إلى المصلحة، كما أن العدل يقتضي ذلك في ظل هذه الظروف الحالية.
وحتى على قول من يقول بجهاد الطلب؛ فإن أصل تشريعهم له هو أنه بسبب منعهم من الدعوة إلى الله، بينما اليوم فبإمكان من يريد الدعوة للإسلام أن يقف أمام البيت الأبيض ويدعو إلى ما يشاء، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي تصل إلى كل طرف في هذا العالم.
الحركات الجهادية خصوصا وبعض الحركات الدينية جعلت من الجزية والتمييز ضد غير المسلمين عموما وكأنه أحد أصول الإسلام، بينما لم تُشرَع الجزية أصلا إلا في أواخر الإسلام حسب شروط محددة، وبعض الحركات التي تسكت عن مثل هذه المواضيع هي في الحقيقة إما أنها بسبب عدم التجربة السياسية لا تبحث الموضوع، والأغلب أنها تقر هذا المبدأ ولا مانع لديها من أن تفعل ما تفعله داعش اليوم في غير المسلمين من إلباسهم لباسا مميزا لهم وفرض الجزية وما إلى ذلك.
لننظر إلى وثيقة المدينة التي كانت بين النبي عليه الصلاة والسلام وجميع سكان المدينة بمن فيهم اليهود، والتي ساوت في الحقوق بين الجميع، وسمت المسلمين واليهود أمة واحدة! بينما لو بحثنا مع بعض المتشددين اليوم هذه الكلمة لربما وصل الأمر للتكفير!
ومن الشواهد على احترام المواثيق؛ فإن النصرة لمن يتعرضون للظلم في دينهم من أهم الفروض الكفائية على ولاة الأمر، إلا أن هذا الواجب يسقط في حال وجود ميثاق أو معاهدة مع نفس ذلك المعتدي في الدين! وأقول في الدين بمعنى أن الحرب دينية ولأجل الدين، ومع ذلك يحترم القرآن المواثيق والمعاهدات، ولهذا يقول تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّاعَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، يقول القرطبي في تفسيره: إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق، فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته.
ثم لو تأمّلنا بنود صلح الحديبية الذي يودّ البعض محوه من الكتب سعيا لتثبيت التشدد وليس طاعة لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فهذه الوثيقة احتوت على كثير من البنود التي ربما يكفر عليها البعض اليوم! فأحد أهم أصول التكفير اليوم هو أصل مظاهرة الكافرين على المسلمين، الذي به لم يسلم أحد إلا وكفروه بسببه، بالرغم من أن هذا الأصل غير صحيح نهائيا، والأدلة الشرعية على خلافه تماما، ومنها فعل الرسول عليه الصلاة والسلام عندما وقّع على أن مَن يُسْلم من قريش ويأتي إلى المدينة فإنه يلتزم بإعادته لقريش! بل وإذا ارتد أحد المسلمين وعاد لقريش؛ فإنه لا يجب على قريش إعادته للمدينة! ولو فعله أحدهم اليوم لكفروه! انظر ليس فقط سينكرون عليه وإنما سيصل الأمر إلى التكفير بناء على هذا الأصل الذي يزعمون أنه ناقض من نواقض الإيمان! ولو أقر أحدهم بند تخيير قبائل العرب ليختاروا بين الإسلام ودين قريش الذي وقع عليه النبي لقالوا هذا إقرار بالطاغوت ولن يترددوا في تكفير صاحبه، وأشد من هذا وذاك عندما مسح النبي عليه الصلاة والسلام عبارة رسول الله، ولقالوا هذا انهزامية وإقرار بالكفر!
الشاهد من هذا الكلام هو أن السياسة الشرعية مبنية على المصلحة التي يقدرها ولي الأمر، كما أن الحفاظ على المقاصد العامة للشريعة بالعدل والمساواة وحفظ الحقوق مقدم على الوسائل التي ليست مقاصد في حد ذاتها، خاصة وأن مثل المعاهدات الدولية عندما تكون إيجابية ولا تميز ضد المسلمين فإن العقل والأولى اتباعها لا مناهضتها التي نكون فيها أشد الخاسرين!